بعد أسبوع من إستشهاده طردهم أبو محمد من منزله فلم يعد لهم إستحقاق بهذا المنزل حسب إدعائه، عادت مع أطفالها إلى حيث يسكن أهلها، أجواء تلك المدينة تشعرها بالألفة فقد نشأت فيها..
لم تستطع التأقلم بصحبة أطفالها الأيتام الأربعة في منزل أهلها الذي يعج بالكبار و الأطفال فقررت إستئجار بيت لعائلتها...إعتقدت أن مرتب التقاعد لمحمد سيسد الإيجار و بعضا من المصاريف، حسب قول صديقه الذي لم ينساهم جزاه الله خيرا، لربما هو الأكثر رحمة بهم من جميع الأقارب، فإخوتها تكفيهم حاجات و طلبات عوائلهم و والدتها لا تملك شيئا سوى النزر القليل الذي يعطيها إياه أبناؤها، و نحمده تعالى إذ أحاطها بأناس خيرة تصدقوا عليها بحصيرة و فرش و تلفاز للأطفال حتى يكفوا عن سؤالهم لها، "شوكت يجي بابا؟".
إزدادت فترات بكاء الرضيعة رقية، مما إضطرها للذهاب للعيادة الشعبية، فليس من حل آخر إذ أن تكلفة الذهاب لأطباء أخصائيين لا تستطيع تحملها، خصوصا أن مرتب التقاعد قد تأخر عليهم كثيرا، من الجيد أن الدكتور في العيادة قد قابلهم بإبتسامة على محياه، إنها بشارة خير! بدأ الجو يمطر في الخارج و قد نال ثيابها بعض الطين من الشوارع الترابية، لم تكن البيوت أفضل حالا فقد تصبغت بلون الطين، مع أنه أفضل من الصبغة المتهالكة التي كانت تحاول تغطية قباحة الجدران في تلك المنطقة، وفي الأيام الماطرة كل من يخرج يتلون أيضا، خصوصا النساء و هن يرتدين العباءات الطويلة مع أحذية بلا كعب "فلات"...
الطبيب بعد فحص الطفلة: "بنتي لازم توديها طبيب إختصاص أطفال، أگدر أنطيج علاج خافض حرارة و مسكن". نظر إليها من فوق نظارته الطبية، ثم هزّ رأسه و أطرق قليلا و سكت لبرهة، نادى على الصيدلي في الغرفة المجاورة:" أبو جاسم عدنا شراب بروفين؟". هل كان من الضروري أن يكون إسمه "أبو جاسم"؟ ليذكرها بـ"أبو جاسمها" محمد؟ كانت هذه كنيته قبل أن يولد مصطفى، ثم ظلت تناديه بها كلما أرادت المزاح معه أو بالأحرى بعد كل خلاف بينهما، الخلافات التي تبدو الآن كالشهد عند إستحضارها، أجمل لحظات عمرها، ليتها كانت تطول فترة الخلاف بينهما التي ما برحت تستمر دقائق فقط. أجابه الصيدلي بالنفي لكن يوجد بديل عنه يفي بالغرض نوعا ما.. كتبه الطبيب في الوصفة و قال لآمال:" روحي بنتي لهذه الصيدلية و إستلمي العلاج و راجعيني باچر لأن حالتها تحتاج رعاية".
هكذا هو الطب هنا.. يكتفون بالمسكنات، أما الأمراض فيسألون الله أن يبعدهم عنها، فلن يستطيعوا أن يكتشفوا ماهيتها فضلا عن معالجتها! و كثيرا ما نسمع عن أشخاص ماتوا دون معرفة مرضهم هنا.
قالت لنفسها: بما أن الطفلة نائمة و بدأ المطر يخف هطوله، سأمرّ على دائرة رواتب التقاعد للجنود، لعل الله يتلطف بي و تكون المعاملة قد تمت فأستطيع أخذ ملاكي النائمة للأخصائي. هذا كان ظاهر ما قالته لنفسها، رغم أن الهاجس الذي جف له رمقها، و الذي لا يتركها منذ أول يوم سكنت في بيتها الذي إستأجرته حديثا، عندما قال لها المستأجر: "البيت نظيف و مصبوغ جديد، ما أريد ولا شخطه بيه، ما علي جهال مو جهال، إضبطيهم، إذا شفت جرة قلم على واحد من الحيطان راح أخذ أجرة صبغ الحايط كامل، و ما أريد أسمع التقاعد تأخر هالشهر، و جهالي يردون ملابس للمدرسة و هالسوالف التعبانة، كل راس شهر أريد الإيجار كامل، كلنا عدنا جهال و محتاجين لگمة".
هل حقا ما تقول؟ ألا ترى أن هناك فرقا بين عائلتي و عائلتك التي تحت ظلك و ظل أمهم؟ أليس هناك أي فرق رغم حقيقة أن معيلنا قد ضحى بحياته و تركنا في عهدتكم من أجل أن تنعموا بكرامتكم في أرضكم؟ هل يكون همي أنت أم صاحب محل الخضروات أم صاحب الفرن أم صاحب مولدة الكهرباء أم ماذا و ماذا ....؟
عندما وصلت إلى الدائرة، لم يكن حالها يختلف عن باقي الأبنية هناك، غير أن الماء كان يتسرب من سقفها!
صاحت موظفة من خلف الزجاج:" إنتبهي يا أختي على بنتچ السگف ذب مي عليها". نظرت لمصدر الصوت ثم انزلت عينيها على رضيعتها لترى أنها بدأت بالصراخ من برودة الماء على وجهها، تبللت ثيابها أيضا، إبتعدت قليلا عن موضعها متألمة على طفلتها المريضة المسكينة.
-الموظفة:" تعالي أختي تفضلي هنا ماكو مطر، ملابسها مو كلش ثخينة، لو تبدليلها هسه خاف تتمرض خطية".
-"هي أصلا مريضة حبيبتي، و ما جايبة وياي ملابس إلها، و تدرين بعده الشتا ما إجى فما توقعت تمطر اليوم".
-" التطبيق بالموبايل كتب أن أكو إحتمال مطر اليوم، عندي شال شتوي جبته إحتياط لفيه عليها إذا تحبين".
-"الموبايل!!!"... تذكرت ما قد طواه النسيان في ظل ظروفها هذه. كان هذا الشيء الوحيد الذي بقي من محمد رغم تهشمه و إستقرار رصاصة فيه، بالإضافة لبعض الأوراق الرسمية، و علبة علكة تحوي قطعتان بطعم الليمون..
-"تفضلي بشنو أگدر أخدمچ؟"
-"عفوا أختي، جاية أسأل على تقاعد زوجي الشهيد محمد.... منتسب لقوات....، إستشهد بتاريخ .....، و هذه أوراق المعاملة."
أخذت الأوراق، أعادت قراءة الإسم.." يمكن أكو إشتباه.. هسه أتأكد".. بحثت على ملفات الكومبيوتر، قارنت المعلومات.. "مستلمين من قبل أنتوا."
-"لا ما مستلمين، المعاملة ما كاملة و إنّقلنا هنا بالجديد، و گالوا لي تگدرين تكمليها من هنا و تستلمين من هنا".
-"حبيبتي مكتوب عندي أنكم مستلميها قبل، و المستلم إجى أثبت لنا أنه يتكفل بالأيتام فصار هو صاحب الحق، المستلم بإسم.......، والد الشهيد، و حتى موَقّف نقلها لهذه المحافظة".
-"مستحيل! صدگ تحچين؟ معقولة يسوي هالشكل بجهال إبنه؟ ويزوِّر هم؟ ما أصدگ هذا أبو زوجي محمد إلي ماكو مثل أخلاقه، شسوي هسه أني؟ بنتي و جهالي منو يصرف عليهم؟ وكل أملي چان بهذا التقاعد؟"
-"تحتاجين تقيمين دعوى بالمحكمة و تكذبين إدعائه أنه هو يرعى الأطفال، شوية راح تكلف بس ضروري علمود تاخذين حقج و حق جهالج".
-"يا دعوى، يا محكمة، يا فلوس، يا مرض بنتي، حسبي الله و نعم الوكيل".
خرجت المسكينة و ما عادت تبصر أمامها سوى ظلام الدنيا و قطرات الماء التي إزدادت و نجحت في جعلها مبلولة بالكامل ، في حين تحاول تغطية إبنتها التي إختلط صوت بكاءها مع صوت الرياح و هطول المطر... إهدئي يا صغيرتي، ستصلين قريبا و تنعمين بالراحة و الدفأ.
في منزلها المظلم، لم توجد فيه إنارة، فحسب قول مصطفى أن كهرباء المنطقة بأكملها قد قطعت بسبب الأمطار الغزيرة. مصطفى مزهوا بنفسه: " يمه طلعت نار من المحوّلة براس الشارع، و أني ما خليت أخواني يطلعون من البيت، بس تأخرتِ يمه، شگال الطبيب على رقية"..
-"يمه أختك مريضة جبتلها علاج، جيبلي خاشوگة زغيرة خل أشربها منه، و خاولي زغير حتى أحطه على راسها علمود تنزل حرارتها".
غيّرت ثياب الرضيعة و وضعت الكمادة على جبهتها، للأسف لم تحصل على مدفأة بعد، فحاولت الإستعاضة عنها بكم من البطانيات المهترأة لديها، أما الفراش فهو عبارة عن قماش رخيص قد مُحي لونه محشى بقطع متفرقة من الإسفنج، ولم يكونوا محظوظين لدرجة الحصول على وسادات.
أخرجت عددا من البطانيات حتى ظهرت لفافة تحوي بقايا الشهيد التي جلبها أصدقائه، من الجيد أنهم أحضروها لها و لم يعطوها لأهله و إلا لما كانت وصلت إليها، أخرجت الصندوق و لم تتمالك نفسها بالطبع، إلا أن فاطمة قد أجبرتها على إخفاء دموعها، و إلا كانت ستضطر لتبرير سبب دموعها ولا تعرف كيف تبررها، ثم لربما ستسألها عن أبيها.
-"ماما شنو هاي أريد سريري القديم و غرفتي الحلوة، ما حبيت هذا المكان، و رقية هم ما حبته ما تشوفيها تمرضت، حتى علاوي اليوم گال لي مو حلو هنا".
-"ماما إن شاء الله من تكبرين شوية و تصيرين بالمدرسة نروح لبيت كبير و حلو، روحي نامي هسه يم أخوتچ حبيبة ماما، إنطيني بوسة".
تستطيع الآن أن تشتكي لمحمد عن طريق هاتفه الذي طالما سمع شكواها.. سمع أيضا أشياء أخرى، سمع ضحكاتها و تغزله بها، سمع بكاءها و نجواها و دعواتها، لا بد أن الشاشة قد إحترقت بسبب الدموع كما حدث لهاتفها في أخر مكالمة لهما، هل يعمل بلا شاشة؟ ما هذه الحماقة كيف يعمل و رصاصة مستقرة فيه؟! مع ذلك ظلت تضغط الأزرار و تمسح على الشاشة بإصبعها، و فجأة صدر منه صوت:
-"محمد حبيبي شلونك، هممم؟"
- "هلو أم مصطفى حبيبة قلبي المجاهدة، إح إح، أنا بخير الحمد لله، الواجب مستمر و ماكو نزول هالفترة لأن الهجوم مستمر، أنتوا شلونكم مدبرين أموركم إن شاء الله؟"
"محمد ما بيها مجال بعد لازم تجي باچر ما أگدر أتحمل بعد، ما ظل عدنا ولا فلس، و تدري أهلي بغير محافظة وأهلك ما يحاچونا هنا، الطفلة تعبتني حيل و الجهال شنو أوكلهم باجر؟!......
تفاجأت بأنه قد سجل المكالمة! هل سمعها مرة أخرى؟ ليتني قد أطلت الحديث فيها، أو ليتني قلت له كلاما آخر غير هذا، ليتنا ضحكنا أو تكلمنا عن أمور أكثر بهجة، ظلت تستمع للمكالمة الاخيرة بحسرة، يا لسعادتي لأنه لا زال يعمل، يجب أن أشحنه لأستمع لها كلما أردت سماع صوته، أو بالأحرى صوتي من خلال هاتفه، في الحقيقة يبدو صوتي مريعا من خلال الهاتف!
قاطعتها فاطمة ثانية: "ماما هذه رقية مدا تتحرك، و يطلع من حلگها شي أبيض".
-"بسم الله الرحمن الرحيم، يمه بنيتي شبيها؟"... لربما كانت بحاجة لأن تسمع صوت والدها لتلحق به.
اضافةتعليق
التعليقات