من باب الحكمة أحياناً أن لا تتصارع مع قوة الأمواج حين تصبح عنيفة، وهذا ليس معناه أن تترك التيار يحملك للشاطئ الذي يريد، بل الذهاب معه قليلاً ومن ثم تحويل الاتجاه الذي وضع لك، وتطويعه لصالحك وخلق تيار جديد لك.
في الكثير من مواقف الحياة، نضطر أن نقبل بالأمر الواقع، لأننا نكون أمام خيارين، إما الاستجابة وإما الهلاك، بالطبع ليس في كل الحالات يُحبذ أن نستجيب ونستسلم لهذا الظرف أو الوضع الذي واجهناه ولم يكن على مرامنا، لكن في الكثير منها ومن باب التعقّل من الأفضل أن نقبل به، ونسعى لاستثمار بعض الأدوات التي وفّرها الوضع الجديد _فبطبيعة الحال لابد من وجود نقاط مضيئة في أي مكانٍ مُعتّم_ ونوظّفها لتخدم أهدافنا وآمالنا بقدر المستطاع.
نقرأ في صفحات التاريخ القديم والحديث الكثير من المواقف المشابهة لهذه القرارات سواء كانت شخصية أو سياسية أو اجتماعية، ولكن جلّها قدّم لنا تحويل الاتجاه إما لمكان أكثر ظلمة أو استخدام وسائل خاطئة كالحيلة والخداع والنفاق والكذب والخيانة، وإن كانت الغاية نبيلة.
حري بنا أن نتأمل ردود أفعال الشخصيات الحكيمة لنستلهم الدروس منها وننعلم كيفية التعامل مع تحديات الواقع المفروض علينا.
الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام لم يقبل بدايةً بتنصيبه بولاية العهد من قبل المأمون العباسي، بل أبى ورفض بعد مخاطبات كثيرة، ولكن عندما هُدد الامام بالقتل، قال: "اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة... وقد أكرهت واضطررت كما اضطر يوسف ودانيال إذ قبل كل واحد منهما الولاية لطاغية زمانه".
بالطبع لقد كره الامام التعامل مع السلطة الظالمة والمنحرفة عن جادة الشريعة، كما كل الأئمة من قبله وبعده، لكن لحكمة خاصة اختار القبول على القتل.
نعم اختار ذلك لكن مع وجود نقطتين مهمتين:
أولا: قبل الامام ولاية العهد من المأمون لكن بشروط، وهي "أن لا يولي أحدا ولا يعزل أحدا ولا يغير سنة ولا رسما، وأن يكون في الأمر مشيراً من بعيد"، *1.
وهنا يظهر الفارق وتتوضح الصورة السوداء لبعض رجال الدين على مر العصور الذين قبلوا بأن يبيعوا أنفسهم و يكونوا أبواقا للسلطة والسياسة. واستغلوا الخطاب الديني لخدمة الأمراء، فغيروا نصوصا دينية وأوّلوا آيات قرآنية لمصلحة الحاكم والدولة.
وثانيا: وهي بيت القصيد في هذا المقال، أنه استثمر ظرفه ومكانه الجديد في دوره الأساسي الذي لم يتخلَ عنه بل صبّه في قالب جديد وهو: التبليغ الديني وخدمة الرسالة المحمدية، مستفيداً من الانفتاح السياسي الذي أتيح له نسبياً من قبل المأمون.
إذن كيف استثمر الامام ذلك؟
لقد تبنى ثلاثة أفعال وهي: حارب، حاور، شجع.
_ حارب الجهل والانحرافات التي حصلت بعد حرب الأمين والمأمون، والتي تشكل بسببها ثغرات عميقة في عقيدة الناس، وأضعفت ثقتهم بدينهم. وهو القائل صلوات الله عليه: "صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله". *2
_ في عصر الامام الرضا كان هناك انفتاحاً فكريا وثقافيا واسعا ولا سيما مع الفكر اليوناني الذي تأثر به الكثير من الناس، لم يعارض الامام كل أفكارهم بل حاور عدة علماء، وناظر أيضا اليهود والنصارى والمجوس والصابئين الذين التقوا معه في قصر المأمون، وقد جمع بعض تلامذته هذه المناظرات التي زادت على عشرين ألف مسألة، 3*.
_ شجع الشعراء على نضم ونشر الشعر فهو وسيلة اعلامية مهمة، ومن هؤلاء الشعراء الموالين دعبل الخزاعي.
وبعد كل هذه النشاطات الواسعة للامام، لم يعجب ذلك المؤمون بالتأكيد وهو الذي جاء بالامام لبلاطه لخدمة مصالحه ومحاولة استقطاب أعوان الامام له، والحصول على شرعية لحكمه، وتقليل نشاطه وتشويه سمعته.
وقد فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، فاتسعت شعبية الامام وازدادت محبته في قلوب الناس، وتعلق به العلماء وتأثروا بأفكاره، ولذلك ضيّق اللعين عليه وعزم على قتله بالسمّ.
لقد وضّح الامام لنا الحد الفاصل بين الاستجابة وبين الاصطدام وأعطانا دروساً في تحمّل المسؤولية والتحدي، وأنّه قبل الرضوخ لما لابد منه هناك شروط فلا مساومة بالمبادئ، لقد علّمنا كيفية توظيف الانفتاح _السياسي في عصره والاعلامي والفكري في عصرنا_، وهنا علينا أن نختار السلاح المناسب لنبني سفناً جديدة ونضبط الأشرعة لنمضي حيث نريد، مادمنا نملك البوصلة.
اضافةتعليق
التعليقات