أي سرّ ما زال هناك خلف الجدار، يغيبه لغز أكبر؟
وأي نداء دعا السيدة الجليلة، المثقلة بحملها، للخروج والتوجه إلى هناك بهذا الوقت المحدد؟
وأي قدرة خفية، تلك التي فتحت جدار الكعبة، لتدعوها للدخول؟
وما الذي حصل معها في الأيام الثلاث، هناك، خلف ذاك الجدار الذي بقى شاهداً رغم إنكار المنكرين، وعناد الجاحدين؟
وكيف لهذه الأنوار البهية والملائكة الضاجّة بالبشر والحبور، وهي تستقبل هذا الوليد، بالعناية الإلهية والتدبير الكوني الفريد، الذي تكتنفه القدسية والغموض؟
كل هذا دليل على أن وليد الكعبة، هذا الوليد استثنائيّ ومعجزة لن تتكرر. إنه خُلق ليكون أخاً وسنداً ومؤآزراً لحبيب الله محمد صلى الله عليه وآله. يحمل معه، وعنه، عبءَ الرسالة ونشرها، فكراً وعقيدةً وعلماً. مع مقارعة الظالمين والمعاندين.
وأثقَلُ إرثٍ سوف يحمله تاريخ هذا الوليد، ويورثه أبناءه من بعده، تلك الأنوار المحمدية، هو الجحود والانكار والبغضاء، لأنه قتل أئمة الكفر والإلحاد.
وسيكون هذا التاريخ بديمومته طريق الحق الناصع، والمحانِب لطريق ابليس وأتباعه.
(علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيث دار، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض) منهج ثابت وطريق واضح، خطّه الرسول الكريم، ليزيل العتمة عن طريقنا، لنرى النور الساطع والصراط المستقيم. وما زال التعتيم والانكار لفضائل الإمام علي (عليه السلام) له ألف ذراع وذراع، ليس، لئلا يأخذ الإمام استحقاقه من الذكر، فهو بعناية الله وحده. وإنما لكي لا يستدل عليه الباحثون عن الحقيقة، والصادقون بالولاء له. فيختل التوازن بين الحق والباطل وتكون الغلبة لإبليس وجنده. وهذه هي المعركة الكونية الأزلية.
إن الكف التي تمسح على رأس اليتيم وتسنده برقة وحنان، أو تخصف نعلاً بالياً، أو ربما ترقع ثوباً قديماً. هي ذاتها التي اقتلعت باب خيبر، وقطعت رؤوس الشرك والظلال.
والقلب الذي أحبّ الزهراء بتلك الأحاسيس العذبة والرقيقة، وتلاطف مع أبناءه بحنو ودعة. هو ذاته القلب الرصين الذي انتصر على إبليس منذ مولده الطاهر في بيت الله، فكان وعاءً للإيمان الراسخ.
والذراع التي احتطبَت للفقراء كما لأهلها، أو أصلحَت أرضاً ميتة، وزرعتها خيراً ونماءً. هي ذات الذراع التي اجتثت أصول الشرك وأصنامها بكل بأس.
هذا الرجل الذي شغل أعداءه أكثر من محبيه، قد صار المنهج الذي خطه هو المعبّر الحقيقي عن المنهج الإسلامي الصحيح، الذي تعرض إلى التشويه والانحراف بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله.
لا يمكن اعتبار الإمام علي إماماً للشيعة أو المسلمين فحسب، إنما هو إمام كونيّ للإنسانية جمعاء، بل لا أغالي إن قلت أنه إمام الإنس والجن. ويكفي إنه علمنا إننا جميعاً أخوة إن لم يكن في الدين، فبالانسانية، حين أوصى مالك الاشتر عند توليته لمصر (الناس صنفان - إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق).
إن من قرأ الإمام علي عليه السلام وعرفه حق معرفته، ودرس تاريخه بدقائقه، لابد أن يؤمن بهذا الفكر ويتمثله في سلوكه وأفكاره.
وأحد الأمثلة على التأثر الإيجابي، المفكر والفيلسوف الأمريكي (امرسون) كان شديد التأثر بمبادئ الامام علي عليه السلام، الإنسانية وبمنظومته الفكرية الشاملة. وقد حاول أن ينقل شيئاً من أفكاره ومبادئه إلى عقول وقلوب الشعب الأمريكي من خلال مقالاته وقصائده ومؤلفاته الفكرية وخلص إلى إيمانه (بأن كل إنسان هو باب ومدخل إلى العقل الكوني) من مقاله (الذات الحق).
كان ومازال هذا التأثير مرافقاً لذكره عليه السلام من قبل المطّلعين على نقاء فكره سعة علمه الذي لا يحده حد، فله في كل باب ألف باب من العلم، وهو ما خصه به الرسول الكريم صلوات الله عليه وآله فهو مدينة العلم، وعلي بابها.
(إن الإسلام بمفاهيمه الروحية والعقائدية، بما في ذلك التوصيات العلمية التي يدعو إليها، لن يُفهم على حقيقته من الغرب ما لم يقرأ الغرب الإسلام الحقيقي، وينهل من منبعه الأساسي المتمثل بفكر أهل بيت النبوة (عليهم السلام) ذلك الفكر المعروف في الغرب باسم الفكر الشيعي، أو المذهب الشيعي).
هذا ما أشار إليه الأستاذ فرانسوا توال مدرس مادة الاستراتيجيا في جامعة السوربون. واعتبر التشيع هو البوابة الرحبة للحوار السلمي بين الأديان والحضارات.
مع ما للإمام علي عليه السلام من رؤى في السياسة والحرب. إلا أن الجانب الروحي والإنساني والعلمي كان اهتمامه الأول والأساسي. والذي خطه لأبناءه من بعده. لأن بناء الإنسان هو المحور الأول الذي اهتم به بعيدا. عن اللون والعرق والدين. وبعيداً عن الإنفعال الآني لحظة الغضب والتهور، لأنه يتعامل بأخلاق النبوة والصفوة المقدسة.
لذا لم نقرأ يوماً أنه عليه السلام أو أحد أبناءه ردّ الإساءة بالاساءة، أو قتل عدواً بانفعال شخصي. إنما كان كله لله وحده، بدليل حادثة عمر بن ود العامري يوم الخندق. أو مع تجاوز أغلب الشخصيات اليهودية عليه والتي كانت سببا في إيمانهم لِما رأوه من سموّ أخلاقه.
فكان لروح هذه الشخصية محبة خاصة لدى الفيلسوف والمفكر الألماني يوهان غوته الذي عاش بين 183 2_1749م. كان هذا التأثير واضحاً في كتابه (الشعر والحقيقة) حين تعرض لبيت النبوة، متمثلاً بالرسول الكريم وعلي وفاطمة، صلوات الله عليهم جميعاً. حين ذكر أن انحياز علي الكامل والمطلق لرسالة محمد صلى الله عليه وآله دليل على أن الإيمان تشرب في قلبه، إيماناً مبدئياً صادقاً. فضلاً عن أن الفيلسوف غوته كتب مسرحية بمنتهى الرقة والشفافية، تفيض عذوبة. تناولت دور الإمام علي وزوجته فاطمة الزهراء، الدور الإيماني في جعل الدين يتخطى حدوده الضيقة داخل العشيرة والقبيلة. وجاء في تعليق الأستاذة كاترينا، أستاذة الأدب الألماني في جامعة استنفورد الأمريكية على مسرحية (ترنيمة محمد) لغوته أنها قالت (إن المسرحية تصور النبي محمد بوصفه هادياً للبشر في صورة نهر يبدأ بالتدفق رقيقاً هادئاً، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطر، ويتحول في عنفوانه إلى سيل عرم.
وهي تصور اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفه الظافر الرائع، ليصب أخيراً في بحر المحيط. رمز الألوهية.
وجاءت هذه المسرحية على شكل حوار بين فاطمة وزوجها الصحابي الجليل.
إن الصورة التي يراها هي صورة الحب والنقاء والعطاء والمساندة، بايمان وصدق وتفاني، هي التي تجمع هذه الشخصيات الثلاث، لتصنع تأريخاً للاسلام، مفعماً بالانسانية والإيمان الروحي العميق.
قال عنه الكاتب والمؤرخ والفيلسوف الإنكليزي توماس كارليل في كتابه الابطال (أما علي، فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً. يتلظى فؤاده نجدة وحماسة. وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان، جدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى. وقد قُتل بالكوفة غيلة، وإنما جنى ذلك على نفسه شدة عدله، حتى أنه حسب كل إنسان عادلاً مثله).
فماذا نقول نحن بحقك سيدي ومولاي، وقد تشربْنا حبك والإيمان بك، نحن الذين خُلقنا من فاضل طينتكم آل بيت الرحمة والنبوة.
سيدي لم نعرف ديننا ولا أنفسنا إلا من خلالكم. وما عرفنا حبيب الله إلا من معرفتكم.
من أراد الله بدأ بكم، ومن وحّده قَبل عنكم، ومن قصده توجه بكم...... بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث وبكم (يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) وبكم ينفس الهم ويكشف الضر.
مقطع من مسرحية ترنيمة محمد لغوته
علي وفاطمة (بصوت واحد): خذنا معك ، خذنا معك.
فاطمة: خذنا معك إلى البحر المحيط الأزلي ، الذي ينتظرنا باسطاً ذراعيه، لقد طال ما بسطهما ليظم أبناء المشتاقين إليه.
علي: وما كان هذا الفيض كله ليبقى مقصوراً على الصحراء الجرداء ، ما كان هذا الفيض ليفيض في رمال الرمضاء ، وتمتصهٌ الشمس الصالبة في كبد السماء، ويصده الكثيب عن الكثبان ، فيلبث عنده غديراً راكداً من الغدران ، ايها السيل خذ معك انهار الوهاد.
فاطمة : وجداول النجاد.
علي وفاطمة ( في صوت واحد): خذنا معك ، خذنا معك
علي : هلّم جميعاً ، هوذا العباب يطمُّ ويزخر ، ويزداد عظمة على عظمة، هوذا شعب بأسره وعلى رأسه زعيمه الاكبر ، مرتفعاً الى أوج العلا ، وهو في زحفهِ الظافر يجوب الآفاق ويخلع أسماء على الأقطار ، وتنشأ عند قدميهِ المدائن والأمصار.
فاطمة : ولكنه ماضٍ قُدماً لا يلوي على شيء ، لا على المدائن الزاهرة ولا على الأبراج المشيدة أو القباب المتوهجة الذرى ولا على صروح المرمر وكلها من آثار فضلهِ.
علي: وعلى متن عبابه الجبار تجري منشآت السفن كألاعلام، شارعة أشرعتها الخافقة الى السماء ، شاهدة على قوتهِ وعظمتهِ ، وهكذا يمضي السيل العظيم الى الأمام بأبنائهِ.
فاطمة: ويمضي إلى الأمام ببنانه.
علي وفاطمة (في صوت واحد): إلى أبيهم، ذلك البحر العظيم، الذي ينتظرهم ليضمهم إلى صدره، وهو يهلل ويكبر زاخراً بالفرح العميم.
اضافةتعليق
التعليقات