كلُّهم كان يأمرني بالصمت. كانت أمي حين تختلف معي على شأن، وإنْ كان يخصني, تضْغط سبابتَها على شفتيها وتقول: "اصمتي واسمعيني"، أبي له طريقته الخاصة في إصدار الأمر بالصمت، بمجرّد أن يلمح إشارة الاعتراض على وجهي، يصفق بكفيه، فأَفهم أن علي ابتلاع الكلام وصوتي، ولم يكن أخي أرحم منهما.
بين أب يبيع وزوج يشتري تبقى المرأة العربية وخصوصا في السعودية بين قوسي الصمت والتقاليد والأعراف، وإذا ما أرادت التغيير عليها القيام بثورة للحصول على الحقوق، وإن أي قضية اجتماعية تمس المرأة أمر في غاية الصعوبة التطرق اليه، في مجتمع لا يزال يعتمد على قوانين نشأت من سطوة الفكر الاجتماعي العرفي والتقاليد الموروثة.
الملك الشاب وحقوق المرأة
خاضت المرأة السعودية طريقا طويلا للحصول على حقوقها، وسط معارضة قوية من تيار كبير داخل المملكة، غير أن عام 2017 كان شاهدا على انتصارات حققتها، وجاء عام 2018 سلسلة متواصلة للحصول على باقي الحقوق.
بعد أن تقلد سلمان بن عبد العزيز زمام القيادة في المملكة انقلبت الكثير من الموازين داخلها بالتشريع والتنفيذ والأعراف، قاد حملة قوية لمناصرة حقوق المرأة ضمن رؤية 2030 التي وضعتها المملكة، ففي في سبتمبر 2017 أصدر أمرا ملكيا بالسماح بإصدار رخص قيادة السيارات للنساء، واعتماد تطبيق أحكام نظام المرور ولائحته التنفيذية في المملكة على الذكور والإناث، على حد سواء.
أثار القرار حالة جدل واسعة بين السعوديين بين مؤيدين للقرار ومعارضين له، غير أن الغالبية التي كانت ترفض القرار لم تؤثر على تنفيذ القرار رسميا منتصف العام الجاري.
انتصارات جديدة
وتأتي انتصارات المرأة في السعودية متتالية بدخول الملاعب لأول مرة، والتحرر من الولاية التي تعد أهم مطلب من مطالب المرأة، وعلى طريق التحرر أصدر الملك في آيار- مايو 2018 قرارا بـ"ضرورة مراجعة الإجراءات المعمول بها في المملكة والتي تخص التعامل مع الطلبات والخدمات المقدمة للمرأة، وحصر جميع الاشتراطات التي تتضمن طلب الحصول على موافقة ولي أمر المرأة لإتمام أي إجراء أو الحصول على أي خدمة مع إيضاح أساسها النظامي، على أن يتم التطبيق في مدة لا تتجاوز 3 أشهر من تاريخ صدور الأمر".
حقوق منتهكة، مطالب لا تنتهي، على أثر المرسوم الملكي الأخير جاءت مطالبها بتحديد آليات تنفيذ القرار وتوسيعه حتى تتمكن السعوديات من السفر للخارج بدون الحاجة لمرافقة الولي.
فيما طالت انتقادات واسعة التغييرات التي قام بها الملك سلمان الابن، تركت آثار سلبية على تغيير المجتمع الى الانفتاح المفرط الذي وبحسب المنتقدين من قادة الرأي السعوديين الاسلاميين فان نتائجه ستكون وخيمة في الإنقلات بعد غياب الأعراف والموروثات التي تحكم البلاد منذ قرون مضت.
الولاية والنقاب
تقود النساء في السعودية تحد واضح للحصول على الحقوق والحريات، فبعد الدعوات بإسقاط الولاية قبل فترة والترند الذي شغل المتابعين السعوديين، إذ اعتبره البعض مساسا بالسيادة الذكورية والآخر تعدي على قوانين اسلام المملكة، فيما تعتبره الأناث أنه تحرر من قيود حرمت المرأة الكثير من طموحاتها، أطلق هاشتاك آخر ليحتل الترند الأول ب120 الف مشاهدة خلال أول ساعة له مع انضمام مزيد من المغردين السعوديين إليه والدخول في السجال الدائر بين مؤيد ومعارض.
وجاء هذه المرة بقوة النار التي لا تهدأ حتى تحرق الأخضر واليابس، بعد أن أثارت ترف العسيري الجدل بظهورها بدون نقاب بعد حلقها شعرها، ولاقت استجابة واسعة من النساء لتبدأ حملة حرق النقاب في المملكة.
رغم كون الدعوة لحرق النقاب جريئة وجديدة إلى حد كبير، إلا أن الانقسام حول الموقف من النقاب قديم في السعودية التي ينقسم أبناؤها بين مؤيد لفرض النقاب على النساء باعتباره جزءًا من تعاليم الشريعة الإسلامية المطبقة في البلاد، وبين من يعارض فرضه أو ربطه استنادًا لتفسيرات أخرى للشريعة الإسلامية.
الفنتازيا الانفتاحية
تتجه السعوديّة اليوم نحو الانفتاح المُفرط بحسب مُنتقدين، ويبدو أنّ النِّقاب بات من شوائب المرحلة السابقة التي تود السُّلطات التخلّص منها نهائيّاً، وربّما بإعلان حملة شعبيّة تدعو لحرق النقاب، وهو ما تفاعل معه الآلاف بالفِعل، ورفضه آخرون تمسكا بالشريعة مع إمكانيّة تحكُّم الجُيوش الإلكترونيّة بهكذا حملات وتوجيهها.
تصوير النقاب وحرقه مباشرة أمام متابعيه، وداست بعض النسوة نقابهن بالأقدام، وهي ظاهرة غير مسبوقة داخل المملكة، فلم يكن أحد في السابق يجرؤ أن يتحدّث حتى في أحكام ارتداء النقاب، فكيف بالدعوة إلى حرقه نهاراً جهاراً، تاركين ادلة تدينهم وهذا يَدُل بحسب مراقبين على كميّة الكبت، والاستياء العام من فرض الحجاب والنِّقاب على النساء في المملكة، أو تغيّر المناخ العام الذي يحكم المملكة على افتراض تحكم السلطات فيه.
يتساءل المغردون السعوديون المعارضون للحملة عن سبب تزامن الحملة مع تصريحات لوزير خارجية بريطانيا السابق بوريس جونسون، والذي كان قد وصف النِّساء المسلمات اللاتي يرتدين النقاب، أو شبههن بصناديق البريد، أو لُصوص البنوك، وهذه التوصيفات لاقت انتقادات في بريطانيا، ووصفت بالعنصريّة، وعدها اخرين محاولة لإشعال نار الإسلاموفوبيا في المملكة.
علمانية تعادي الدين
مدير مكتب دعوى سابق في المملكة محمد الناصري يقول في حديثٍ لصحيفة الرأي اليوم السعودية، أن حكومة بلاده الحالية مستعجلة في التغيير وغير مدركة لعدم نُضجها في إدارة مثل تلك الحملات، تريد ان تنتقل برمشة عين إلى الانفتاح، الهروب من تُهم الإرهاب.
إلا أن الحل الوحيد حسب الناصري هو أن تدير حملات ممنهجة ومدروسة للانتقال إلى الإسلام الوسطي، ويذكر الناصري بكيفية وصول الدولة الى التطرف الاسلامي، نتيجة التشدد الديني أو الوهابي، ستوصل الجيل الحالي إلى علمانيّة تُعادي الدين، وبهذا يحذِّر الناصري من ضياع هويّة الفرد السعودي، الذي عليه أن يرتدي ويخلع عباءة الوهابيّة، ثم يتساءل ناصري في ذات الحديث عن إسلام يقوم أتباعه بحرق رموزه، فكيف ستكون ردّة فعل أتباع الدِّيانات الأًخرى؟.
كفل الاسلام حرية المرأة وآلية الانضباط الديني والشرعي لها، إلا أن التطرف الغريزي لدى الذكور جاء ليحد ويحجم من دورها ويضعها خلف قضبان الأحكام الشرعية ليتسيد الذكور الموقف.
دعوات التغريب
رغم أن الترند اكتسح العالم ووصل إلى رؤساء بعض الدول ليعبروا عن دهشتهم بما يحدث في النظام الاجتماعي للملكة، فبالرغم من عدم وجود قانون يحكم المرأة بارتداء النقاب، إلا أن الناشط السعودي خالد الفيفي أطلق هاشتاك للمعارضين للحملة "الحجاب عفاف وستر للمرأة" ردا على ما وصفها بدعوات التغريب.
إلا أن الغريب صمت تجاه الموضوع بل والاستجابة للمطالب السابقة بالتحرر من قيود الوصاية وقيادة السيارة وغيرها، وعد ظهور الملك مع مجموعة من النسوة اللاتي يرتدين زي وبدون نقاب، عده المحللين بمثابة التأييد ومناصرة المرأة بمطالبها.
سابقا كانت المملكة العربية تفرض على مواطنيها والمقيمين فيها ارتداء الحجاب، وأحياناً النقاب، وعلى النّساء غير المسلمات كذلك، عملا بقوانينها الداخلية التي تفرض ضوابط الستر الإسلامي على المرأة.
التوازن
الكاتبة السعودية تغريد الطاسان جاء رأيها متوازنا: "يمكننا أن نفعل ما نشاء مادمنا داخل إطار الشرع ثم المقبول إجتماعياً، ولكن ليس من حقنا أن نستفز أحداً أو نقلل من قيمة شيئ ما لمجرد أنه ضد قناعاتنا أو اختياراتنا، للنقاب قيمة يجب أن تُحترم وللمنقبات كل التقدير ما دام اختيارهن لا يؤذي أحد.
فيما ظهرت زوجة الرئيس السابق لهيئة مكة احمد الغامدي على فضائية ام بي سي مع زوجها وهي مكشوفة الوجه، ورد على الانتقادات بقوله: "أن النقاب ليس من الإسلام، اذ ان النبي لم يأمر المرأة بأن تغطي وجهها، مؤكدا أن الوجه والكفين جائز إبداؤه".
"إسلام وسطي معتدل منفتح على العالم وعلى جميع الأديان"، هذا ما وعد به الملك، وربما تتجسد هذه الوعود في هيئة مراقبة تفسير الأحاديث التي أحدثتها الرياض مؤخرا، كذلك في الحد من صلاحيات "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، دون نسيان "رؤية 2030" التي تُظهر رغبة سعودية بتطوير جذري للاقتصاد مع ما يحمله ذلك من انعكاسات قوية على المجتمع.
العودة للحسابات السياسية
بالعودة الى خديجة الرياضي الفائزة بجائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، لا تفاءل مغربي بما يحدث في المملكة، القرارات السعودية الجديدة: "لا وجود لإرادة سياسية لتغيير واقع المرأة السعودية وتمكينها من حقوقها على الأقل بالكويت، تقول الرياضي "من المضحك المبكي أننا لا زلنا نرى في السماح بقيادة السيارة إنجازا ومكسبا كبيرا"، مردفة: "جميل أن تنتزع المرأة السعودية هذه الحقوق، لكن ذلك لن يدفعنا للقول إن هناك مؤشرات دخول مرحلة جديدة".
تفسّر الرياضي هذه القرارات بأنها مجرّد "حسابات سياسية"، وإنها تأتي في سياق "إرضاء الولايات المتحدة ولأجل الاستمرار في المشهد"، في حديثها لـDW عربية أن النظام السعودي "مستعد لتغيير أمور أخرى لأجل استمراره وضمان استقراره، وأن أيّ تغيير حقيقي لأوضاع المرأة السعودية لن يكون ممكنا مع طبيعة النظام السياسي السائد في البلد".
اضافةتعليق
التعليقات