لاشك أن أفضل وسيلة لفهم الأفكار والمعتقدات هي معرفة العوامل الأولى التي أدت إليها لكون أي نتاج فكري يخضع لملاباسات الزمان والمكان، ويرتبط بالسياقات والمقاصد والغايات ولاينفك عن جملة من البواعث والدوافع وينعكس عن مجموعة من الخيارات، وكل ماذكر إنما هو واقع للفكر الحديث بالمؤثرات التي تقع داخل دائرة اجتماعية المعرفة، وتتشابك مع أخرى تعرف بتدين المعرفة، أي إنها تنقاد لجملة من العادات والتقاليد والقيم والولاءات، وتمثل ارتباطها بخصوصية العقيدة وهو مايرمز له بالاسقاط الايدولوجي للمعرفة.
وبناءّ على ذلك بدأت تسود فلسفات تتبنى الفكر الفردي الحر، حيث لا نستطيع أن ندعي أن الدول النامية التي تنجو منحنى الليبرالية تقع في اطار تبني الفكر الجمعي، بينما يأتي تحكمها في العملية الاعلامية بإعتبار ذلك ظرفا مؤقتا تفرضه الضرورة التنموية، أما بالنسبة للفلسفة السلطوية فإن الذي يقع تحت مضلة الفكر الجمعي على أن تعلو مصلحة الدولة المصلحة الفردية، وتملكها مطلق الصلاحيات لتحقيق الأهداف القومية العليا، كذلك بالامكان أن نشاهد تطبيقاتها في الفكر الدكتاتوري حيث يستخدم الماكنة الاعلامية استخداما قاصرا على تحقيق مصلحة الفئة الحاكمة بحجة أنها تمتلك الحقيقة كلها ولابد أن تفرض سيطرتها على وسائل الاعلام لتوصيل ما تريد إلى الجماهير.
الكوزمولوجيا الاسلامية
أما مايتم الحديث عنه من فلسفات الاعلام الحر مثل المركزية والمسؤولية الاجتماعية والمشاركة والديقراطية، ماهي إلا مسميات مختلفة ادخلت على الفلسفة الاعلامية الليبرالية لتلافي العيوب التي نتجت عند تطبيقها، على اعتبار أن وسائل الاعلام الحديثة وفرت لإنشاء سوق حر للأفكار، تنافس سوق البضائع ولكن مع وجود نوع من المسؤولية تجاه المجتمع، فإذا ماتخيلنا أن الفلسفة الاعلامية لأي مجتمع كأطار دائري نجد أن هناك اطارين آخرين هما النظرة الاجتماعية التي يتبناها الشعب والثاني يمثل الكوزمولوجيا أو التصور الذي يتبناه المجتمع وعلاقته وغاياته في ظل التصور الكوني.
وللعقل في الكوزمولوجيا الاسلامية مكانة رفيعة فالوحي الذي تستمد منه بناءها يعتمد أساس التصديق به على العقل، لأن حجية الوحي مترتبة على حجية الرسول الذي بلغ وهي مترتبة على الايمان بالله الذي أرسل الوحي، هنا يتضح الاختلاف في الغايات التي تسعى وسائل الاعلام لتحقيقها سواء للأفراد أو المجتمعات، إذ تنحصر غاياتها على الكوزمولوجيا الدنيوية، إذ تسعى لاشباع الأهداف المادية والحسية للأفراد دون أن تهتم بالروح، التي سعت الفلسفات الوضعية لتحقيقها بكل السبل المشروعة وغير المشروعة.
إذ يعد افتراض الفكر الليبرالي عقلانية الانسان واحد من أهم الأساسات التي شكلت بنية فلسفته الاعلامية، وترجع هذه الأهمية إلى ماينجم عنه من ضرورة منح هذا الكائن العقلائي الحرية الكاملة في التعبير عن آرائه بما يخص قضاياه، إلا انه غض النظر عن أن الكينونة البشرية المتكونة من مقومات انثروبولوجية متعددة والقوة الادراكية واحدة منها، وأن الحاجة إلى المعرفة العقلية حاجة من بين الموروثات الثقافية والارادة والسيكولوجيا بأطيافها الشعورية العاطفية والوجدانية والاشعورية من رغبات ودوافع سليمة وغير سليمة.
وان العقل الذي اعتمدته بامكانه ان يشوه الحقائق ليؤدي الى تنفيذ تلك الرغبات والحصول على الاحتياجات، وحتى التحديث الذي طرأ على هذه الفلسفة كون المسؤولية الاجتماعية اساسية لادارة دفة الاعلام الا انها استندت الى ان الانسان كائن اخلاقي بفرضية العقلانية ادى الاندماج بهذه الفلسفة الى توسيع دائرة الحرية، باعتبار ان الانسان بامكانه التمييز اخلاقيا سواء كان مرسل ام مستقبل، وعقلانيا ليقضي على القيود بأعتقاده ان الاعلام غير المقيد اذا ما اقترن بالعقل والاخلاق قادر على ان يكون اعلام هادف ويخدم المجتمع، ذلك قد يأتي من افعال الدولة وحركتها القانيونية اتجاه تنميط المجتمعات بسن القوانين والتشريعات الحازمة التي تنمي السلوك الاخلاقي وتعزز المسؤولية الاجتماعية لدى الجمهور.
صراع الغايات
بيد ان الاسلام ينظر الى الانسان ذلك الكائن المكلف لان استخلافه من قبل الله اناط به مهام وواجبات كثيرة، ففي الوقت الذي تجلي الفلسفة الاسلامية العقل وتكرمه، فانها تعلي من قيمة الحريات الاعلامية وتطلب من الجميع ان يدلي بدلوه متامشيا مع الجانب الاخلاقي الذي فطره الله عليه وسوى له نفسه، التي ينظر اليها الفكر السلطوي على انها شريرة ويجب تقييد حرايتها، ويرى الليبرالي انها اخلاقية عقلية تبحث عن الخير في فطرتها فيجب ان تتكسركل القيود والتي نتجت عنها حريات مشوهة بالفوضى.
والواقع ان قصور هذه النظريات في ادراك الطبيعة البشرية بصورة صحيحة يكمن في انكارها للارادة الالهية المطلقة، واعتمادها على الماديات البشرية لاكتشاف الحقائق، ولعل اكثر سمات الميثودولوجيا الاسلامية وضوحا هو مبدأ وحدة الحقيقة، التي تعد سمة من سمات الخالق سبحانه وتعالى وان تلك الحقائق لاتشق طريقها من الله فحسب، انما تعرض على غاياته وقيمه ان العقل صفة ملازمة والاخلاق فطرة الله فتفاعل العقل المسلم مع الحقائق المتغيرة لا ينفك عن اصل الحقائق الثابته واصولها العقائدية والحضارية، وهكذا تكون الوحدة الموضوعية في الاسلام متماسكة الاجزاء الشاملة قادرة على المعاصرة والملائمة وحفظ الخصوصيات.
ولما كانت الليبرالية تنظر للانسان انه الغاية والوسيلة، وان الحكومات ادوات لتهيئة المناخ الذي يحقق غاياته بشكل مثالي، لذلك نجد ان الالة العالمية ذات الدور الابرز في تحقيق غايات مجتمعاتها ومهمتها الافراد وليس الحكومات، في ظل هذا لابد ان نلاحظ اخفاق في تحقيق الغايات نتيجة لقصر دور الدولة، او قد يكون دورها السلبي في تحقيق احتياجات الافراد وفرض السيطرة على السلطة والهيمنة على السوق الحرة وجعلها تصب لمصالحهم فقط .
فكان من الطبيعي في عصر التطورات الفكرية التي ادت الى احداث تعديلات على المنظومة الليبرالية بأكملها لما كانت عليه من ظروف مهيئة لانحراف الفرد في استخدام هذه الحقوق والحريات، فأذا لم يلحظ المجتمع الفرق بين الحرية من والحرية من اجل لا يكون هناك استخدام حقيقي لها، وان اتحمل المسؤولية الاجتماعية دون الفضائح واعمال العنف والتخريب النفسي والمجتمعي، هنا عادت الليبرالية لتلقي بتلك المسؤولية على الدولة في تقنينها، الا ان الحرية الاسلامية في ظل الكوزمولوجيا الدينية عالجت هذا الامر مننذ الوهلة الاولى وقبل حتى ان تكون هذه الوسائل العالمية المعاصرة.
فالعلاقة الاعلامية بين الفرد والدولة الاسلامية تختلف عن كل النظريات فلا الليبرالية ولا الاشتراكية ولا حتى الفكر الاجتماعي التنموي الذي شاع في الغرب، وروج له عن طريق قنوات اتصاله العالمية يستطيع الوصول لخوارزميات الفكرالاسلامي في معالجة الامر، نتيجة لاختلاف المسلمات التي ينطلق منها والغايات التي يسعى الوصول اليها، فعلى ضوء نظرة الاسلام للانسان على انه مكلف ومسؤول وللدولة كأداة صناعية لتحقيق غايات المجتمع مستوحيا ومسترشدا الحقائق من الوحي الالهي.
الالتزام الذاتي
كما أن ترسيخ العقيدة وتدعيم الحركة العمرانية وإعلاء كلمة لا إله إلا الله تحتاج إلى تضحيات غالية في الوقت والجهد والمال، ولابد من قناعة حقيقة وإيمان راسخ للإخلاص في ذلك لوجه تعالى، ولربما أبهى صورة لهذا الاستخلاف هو تضحيات الإمام الحسين عليه السلام بكل مايملك لترسيخ قواعد الأمة الإسلامية وثوابتها القيمية والعقدية.
فالإلتزام الذاتي المصدر الأساس للقائم بالإتصال في الفكر الإعلامي الإسلامي، إذ وضع القرآن الكريم الضوابط الأخلاقية والقانونية للعمل الإعلامي في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لايسخر قوم من قوم"، " ولا تجسسوا"، "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فإجلدوهم ثمانين جلدة"، وغيرها الكثير من الآيات بهذا الخصوص فلا مجال لهذه الثوابت بنقد أو إهمال أو التقليل من شأنها بأي شكل من الأشكال، وإن إيمان الفرد بتلك المقدمات وإن مخالفته مخالف للمنطق العقلي الذي يؤيدة الإسلام.
كلف الرسول صوات الله عليه الجميع للذود عما كلف بحراسته، بالإضافة إلى سلسلة المراقبة التي تبدأ بالخالق التي لا تقف مراقبته عند أي تقصير من قبل القائمين على وسائل الاعلام، بل تمتد لترقب ممن الزموا هذه الوسائل والحدود صغر دورهم أو كبر، وهو فلسفة إعلامية عجزت نظيراتها التي أفرزتها وستفرزها الكوزمولوجيا الإعلامية.
وفي ظل الفورة الإعلامية التي انتجتها مواقع التواصل الالكترونية وفتح باب الحرية الإعلامية على مصراعيه، وكنتيجة للواقع الذي تعيشه أغلب وسائل الإعلام يمكن القول أن تلك الوسائل أصبحت غابة أخلاقية يتربع على عرشها المبدأ البرغماتي النفعي والمبادئ المتفق عليها فيما يخص الممارسات اليومية وأصبحت الفوضى محط فخر لدى البعض من المنتفعين منها.
ويجدر الإشارة إلى أن الدور المنوط بوسائل الإعلام في إقامة مجتمع استخلاف كما أشارت له الكوزمولوجيا الإسلامية لا يتوقف عند توعية الفرد بأمور دينه وإنما يمتد إلى تعريفة وتدريبه على السبل المثلى للمشاركة الايجابية في الوظيفة العمرانية لذلك المجتمع، ودعم المستوى الفكري والحضاري للأفراد وتنشيط عملية محو الأمية الفكرية والحرفية.
بالإضافة إلى أنها مسؤولة عن تقديم الدعم في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال تكوين رأي عام يؤمن بحقيقة وجوده ومسؤولياته إذ يكون دورا ازدواجيا مسؤولا ورقيبا على أدائه، فضرورة ابراز الآية القرآنية " كنتم خير أمة اخرجت للناس..." يجب أن يترجم على وسائل الإعلام في ظل التربص للإيقاع بثوابت الدين الحنيف وزحزحة الأجيال عن القواعد الراسخة لدين الله، فإن تجرد الإعلامي المسلم في عمله لوجه الله كفيل بأن يكون مجاهدا لتزويد الرأي العام بالرؤية الإسلامية الحقيقية للقضايا المعاصرة.
ومن خلال ماتقدم يمكن الجزم أن أي فلسفة إعلامية كانت وتكون لا يمكن أن تنافس القرآنية منها، التي انبنت على أسس متينة وعالجت كل الخروقات في الفلسفات الأخرى إذ إنها أتت ضمن منهج إلهي سماوي منزل، وهنا تكمن أهمية تطبيق المسؤولية الوظيفية للأفراد العاملين في الإلمام المباشر بتلك المقدمات للكوزمولوجيا الإعلامية ووضع الآليات الكفيلة ليؤدي الجميع دوره على أكمل وجه.
اضافةتعليق
التعليقات