إملاق فقيرة:
سيمفونية ظلام في تلك الليلة الحالكة والمعتمة التي خيمت على ارجاء القرية الصغيرة التي كنت أسكنها، حبات الغيث المنهمر تضرب على زجاج النافذة المنكسرة والتي يدخل من خلالها الماء والهواء البارد ولطالما كانت أمي تسد ثغراتها بقطع القماش أو قطع الخشب.
كنا مجتمعين حول المدفأة، أخي الصغير يخبئ رأسه تحت الوسادة خائفا من صوت الرعد، وترقبه نظرات أختي الضاحكة، أما أمي فقد كانت تردد الآيات والأذكار فهي تخاف أن يسقط البيت علينا كونه رث جدا، كنت أنا الوحيدة شاردة التفكير، أفكر بتلك التي ترتدي معطفًا وتجلس بدفء على مائدة فيها مالذ وطاب من الأطعمة التي تشبعك إذا ما نظرت إليها، تلك التي تجلس وسط عائلة متكاملة من أب وأم مثقفين وعائلة تفخر بها، ليس كمثل حالتي أخت معاقة وأخ يعاني من متلازمة داون، فقط أنا وأمي من نمتلك صحة جيدة.
كانت عيني قد سافرت إلى ذلك القصر الجميل الذي تجلس فيه تلك الفتاة الأنيقة التي إذا ما أرادت الخروج فستصحبها سيارة من الطراز الفخم تلك السوداء الطويلة وإذا ما أرادت النزول تفتح لها الباب من قبل السائق الذي يسرع بالنزول قبلها من أجل فتح الباب لها ويستقبلها صاحب المطعم مع ابتسامة وانحناءة بالرأس فتسير على السجاد الأحمر الممتد من باب المطعم حتى الطاولة التي ينتظرها هناك شاب وسيم المظهر فيهم بسحب الكرسي لها، تلك الحياة الرغيدة التي يملؤها الترف أوهل تحزن هي؟
بؤس غنية:
كانت تنظر من النافذة الزجاجية إلى المطر المتساقط بترتيب وأناقة كحبات اللؤلؤ لا يصطدم أحدا بالآخر وامتزجت تلك القطرات مع الضوء الساطع من القصر فأصبح المشهد أكثر تألقًا وروعة، الأجواء الساحرية التي كانت تشعرها بالهدوء والاسترخاء وسط معزوفة المطر، لكن البسمة تغادرها كما غادر القمر هذه الليلة بسبب قدوم السحاب الممطرة، صوت قطع الخشب التي بدأت تتفحم لترسم لوحة حزن حالكة بلونها الفحمي هذه الليلة مع أجواء المطر، وكوب الشوكلاتا الساخن بين أناملها الذي تمسكه بقوة لتدفىء به يديها وتقرب فاهها من الكوب لتأخذ رشفة من مشروبها الساخن، رغم علمها أن الشوكلا ترفع من هرمون السعادة إلا أنها لا تشعر بأي سعادة فأي سعادة وسط هذه الوحدة القاتلة، والدها مسافر، والدتها منشغلة بحفلة صديقتها، أختها منفصلة عنها تماما تعيش في عالم مختلف رغم كونها تعيش معها في نفس القصر إلا أنها لا تراها إلا صدف.
في هذا القصر الضخم والذي يحسدها عليه الآخرين تتمنى أن تهبه لمن يعطيها لحظة سعادة كم تتمنى لو تجلس مع والدتها الآن وأختها ووالدها وهم يرقبون مشهد المطر ويتسامرون الحديث؛ فكرت وقالت:
ياترى كيف تعيش تلك التي تجلس مع عائلتها في غرفة واحدة وهم يجتمعون حول المدفأة؟
إملاق فقيرة:
حساء صنعته أمي بحب ودفئ وسط الأجواء الباردة، كان هدف أمي أن ترانا سعيدين فقط، قدمت حساءها المتواضع الذي اعتدنا على احتسائه كل ليلة مع قطع الخبز القليلة، حينما نظرت إلى الطعام تذكرت تلك التي رسمتها في مخيلتي صاحب الرداء الأنيق ذات القماش الناعم تلك التي لا تتناول سوى اللحم المشوي في مطعم فخم، كأن أمي قد لاحظت استغراقي في التفكير فقالت: بنيتي مابك هل الحساء لم يعجبك؟
ابتسمت ابتسامة امتزجت مع مرارتي وأنا أرى بيتنا وحياتنا البائسة فقلت: لا إنه رائع سلمت يداك.
نظرت إلى أخي وأختي وجدتهما مستمعين ويضحكون لكن لماذا أنا غير مستمتعة مثلهم؟
بؤس غنية:
جرعات حزن فاحت على قلبي الذي بات وحيدا كمسجون تبرّى منه العالم، لحظات هذا الليل طويلة أشعر وكأنها أطول ليلة مرت في حياتي، أفكاري الجاثية على ركبتي تقول لي لا بأس لكني أقول إني وحيدة.
طرق خفيف على الباب تسمح هي بالدخول إنها الخادمة تحمل العشاء إليها وضعته على الطاولة وأشارت هي إليها بالخروج، نظرت لتلك الأنواع الزاهية من الطعام الرائع تمنت لو يصحبه جلوس أحد إليها يؤنسها، لم تتناول شيء، قامت بسحب كرسيها الخشبي نحو النافذة وبدأت تتطلع لوحة الليل الممطرة، لما أنا بائسة علي أن أكون سعيدة وسط مالدي من رغيد كل ما أطلبه يأتي قبل أن أنطق، سيارتي، غرفتي، مالي، كل مالدي من المفترض أن يشعرني بلذة السعادة فلماذا ياترى لست سعيدة…؟
إملاق فقيرة:
بدأ الضوء يعتم بالغرفة فالنار أوشكت على الإنطفاء بعد أن أصبح الحطب رمادا ليس لدينا حطب آخر، هل يعني أننا سنقضي الليلة بظلام وبرد، ماهذا هل نحن نعيش مثل باقي العالم ذاك الذي يجلس واضعًا قدمه فوق الأخرى وهو يطالع كتابه المفضل أمام مدفئته وسط أجواء رائعة هل نحن مثله الذين نقاسي البرد والعناء؟
كأني أريد أن أسبق النار قبل أن تخمد فوضعت يدي تحت المدفأة لأشعر بآخر حضنة دفىء منها، تقربت منها ووضعت يدي تحتها كانت على وشك الانطفاء…
بؤس غنية:
تجمدت يداي تحت جليد المدفأة، شعرت ببرد وأنا احتضن المدفأة إلى جواري حتى كادت ألسنة النار تتناول أطراف ثوبي، أشعر ببرد، أشعر بشعور مؤلم، أشعر أن كل جسدي يرتجف بردًا، مفتقدا إلى الدفئ الحقيقي دفء وجود والدي ووالدتي إلى جواري أفقد دفء حضن والدتي، تجمدت يداي تحت جليد وحدتي التي خيمت علي وأشعرتني ببردها القاسي..
إملاق فقيرة:
لم أكن ممن يتذمر لكن الحياة قد ضاقت بي وبأسرتي، أريد أن أكون سعيدة أريد أن أشعر بالدفىء الحقيقي للسعادة..
وفي يوم اجتمعت الغنية بالفقيرة وكان لهما حوار جميل تحدثت كلتاهما عن تلك الليلة المعتمة وأفكار كل منهما فأدركتا في نهاية المطاف أن الدفءالحقيقي أن يكون المرء بين أحضان أسرته، تحسفت الفقيرة على ما قالته وما فكرت به أن السعادة بالغنى أو بالأموال والسيارة أو حتى بالطعام الفاخر فقالت وهي تراجع صفحاتها: ما ألذ حساء والدتي، أدركت الغنية أن الثروة لا تولد السعادة بل ربما تصنع التفرقة والوحدة بين أفراد العائلة، في شتاء العام القادم كانت هناك صورة مختلفة للعائلتين وللفتاتين.
غنى فقيرة:
كانت جلستي بقراءة رواية لإخوتي إلى جوار المدفأة وأنا أقلد أصوات الشخصيات وسط بسمة على وجوه إخوتي وكانت أمي تصغي إلينا وهي تحيك لنا معاطف شتاء هذا العام بيديها الدافئتين فتصنعهما بحنان وحب بينما كان إبريق الشاي يمنحنا دفء من بخاره الهادئ..
سعادة غنية:
أخيرا اجتمعت أسرتي حول مائدة واحدة فمن شتاء إلى شتاء تغير الكثير، واستطعت تغييرهم، جمعت شمل أسرتنا مرة أخرى، أبي الذي كان يعتذر دائما بحجة مواعيده وسفره، وأمي وحجة صديقاتها، وأختي بغرفتها تجلس منعزلة، أصبح الأمر مختلفاً جلساتنا وحديثنا وضحكاتنا حتى جلوسنا عند المدفأة، كانت هذه أسعد لحظاتي.
غنى فقيرة:
أنهت أمي معاطفنا مع آخر صفحات الرواية التي انتهت بدموع أختي الرقيقة على نهاية الرواية، اجتمعنا حول أمي واحتضناها بحب وقبلتنا هي بحنان كانت تلك أجمل لحظات حياتي.
الغنية والفقيرة:
تساقطت حبات الثلج الأبيض مع ساعات العام الجديد الأولى، كانت تلك الحبات الثلجية تتساقط على قلبي بدفىء رغم أنها ثلجية عكس المدفأة التي تجمدت يداي تحتها والفرق هنا أن وجود العائلة هو من يمنحنا الحب والدفىء الحقيقي، ويمنحنا السعادة، ابحث عن سعادتك وسط أسرتك وكن أنت المبادر لإسعادهم قبل أن تفكر بسعادة غيرك الغنى لا يرتبط بالسعادة مطلقا، والسعادة لا ترتبط به، السعادة ترتبط بثلاث "الحب والإيمان والصدق".
كن محبًا ومؤمنًا وصادقًا بالأخص مع عائلتك حينها ستجد السعادة "ولن تتجمد يداك تحت جليد المدفاة".
اضافةتعليق
التعليقات