أن تتخذ من الدنيا ممراً هذا هو عين الصواب أما أن تعتبرها هي المقر هنا تكمن المشكلة الكبرى التي لن تصحو منها الإ بعد خروج آخر أنفاسك حينها تقتنع بأنها ليست سوى أيام معدودات قد عشتها..
كان يقطن جوارنا أبو محمد، رجل متوسط العمر، يختلط سواد شعره بالبياض، مكتنز الجسم، تميل قامته للقصر منها إلى الطول، كنت أسمع نقاشاته الحادة مع ابنه محمد دائماً فلا تخلو ظهيرة من أظهر الصيف الحارة إلا ولذعت آذاننا أصواتهم، فأبو محمد لايكف عن الاقتراض من المصارف أو من الناس ووصلت الديون إلى ما لا يحمد عقباها، أما هو غير مكترث للأمر ظناً منه أنه يفعل الصواب بتكديسه لتلك الأموال..
لم يذهب أبو محمد إلى أي دولة أو مكان، لم يحج ولم يعتمر، كان الرجل يقضي جل وقته بترتيب أمواله والبيع والشراء غافلاً أن من يخزن الأموال يكن كالميت فهو لايستطيع التصرف بأمواله ويتمنى أن يعود للدنيا كي يعمل لأخرته أكثر وأكثر فهي دار البقاء والدار التي فيها دار فناء.
أذكر ذلك اليوم جيداً كنت ذاهباً لجلب بعض الأشياء البسيطة للبيت وإذا بي أرى جمعاً من الناس، شققت الجمع ورأيت أبا محمد ممدداً بينهم، كانت الجلطة ضربت أجزاء جسمه بأكملها فلم يقدر على الكلام أو التحرك، يدير بعينيه يميناً وشمالاً، أتى ابنه محمد ساعدناه بحمله إلى البيت. وصلنا بشق الأنفس، قضى أبو محمد عامين من عمره وهو بتلك الحال، كنت أزوره بعض الأحيان، أرى عينيه تستجدي شيئاً ما كأنها تقول: ليتني أرجع لقوتي كي أفعل الأشياء التي كان ينبغي علي أن أفعلها، فما فائدة خزني للأموال، أصبحت ميتاً بين الأحياء، أضفت عبئاً على ابني محمد فلقد حملته هماً هو في غناً عنه، ديون وكمبيالات وقروض ومشاريع، لكنه كان أفضل مني بكثير والحمد لله فخلال العامين التي عشتهما قام بتصفية كل شيء، سدد القروض والديون وأغلق المشاريع، أبقى على واحد فقط وكان باب رزقه.
محمد كان ابناً مختلفاً عن أبيه يحب عائلته ويسعى أن يقضي معهم الوقت، يلاطف زوجته وأطفاله، استمتع بحياته البسيطة قدر الإمكان، أما أبو محمد فقد تلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يردد في نفسه قول الإمام علي (عليه السلام): هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون مابقي الدهر.
اضافةتعليق
التعليقات