للصمت عزف خاص على القلوب مرة يعزف خوفا واخرى حزنا ومنه ما يكون حبا فأوتاره تتنغم بنغمة ما يحيطه.
في يوم الجمعة أرض النجف تعج بزوار ابي الحسن، يطيلون الوقوف، وتحتضنهم الدمعة، ثم تحكي صدورهم هموما لدنياهم واخرى للآخرة، ثم يخرجوا بقلوب مطمئنة بعد أن يمسح عليها بكفه الحاني، وأي كف ذاك الذي احتضن اليتم من خلق الخلق الى نهايته، بزيارته تُفَرّغ كل تلك الشحنات السلبية التي رمتها عليك الايام فتشعر بسكنية تجتاحك ونقاء يملؤك تخرج من هناك وروحك متعلقة بذاك المرقد الآمن، ثم يتجه أغلب الناس نحو وادٍ ضخم ضم العديد من اجساد البشر الفانية ناقلهم الى المحطة الاخرى من حياتهم، كلما تقترب منه يقل ضجيج الاحياء ويقترب صوت صمت الاموات، هناك تستصغر همومك، وتضحك بحسرة على كل دمعة ذرفتها لهذه الدنيا، وتشعر برحلة الفناء والبقاء كم هي قصيرة وكم نجعل لها مقاما كبيرا.
وبينما نتنقل بين القبور لنصل الى قبور اجدادي، أرى صورا لشباب واخرى لأطفال وغيرها لشيوخ، رسالة واضحة من الموت لنا لا تحتاج الى تفسير، ترى أنواع من القبور منها مايعرف بالقبر وهو أن يدفن الميت مباشرة في الأرض وآخر ما يسمى سرداب ويضم على عدد من اللحود بداخله وهناك من يضع فوق سردابه غرف كبيرة، انتابني الفضول لمعرفة سببها وظننتْ بداية إنها تفرقة!، ترى هناك من زرع السدر فوق قبور موتاه كونها شجرة مباركة، واخر وضع سبيلا للماء وعليه اسم موتاه، ترى قبور عليها الزهور تلك التي تحمل صور لأبطال العراق ممن دافعوا من أجل الوطن..
تقربنا من سرداب اجدادي، ووقفنا عند البوابة نقرأ ماتسير لنا من سور القرآن الكريم ثم فتحنا باب السرداب واسمعناهم زيارة عاشوراء ليأنسوا بها _هذه عادة خالتي_ ولم أسالها عن السبب سوى إني على يقين أنها زيارة الأمان للحي والميت، ثم نزلنا بعد ذلك الى داخل السرداب، لحودٌ أطبقتْ على أهلها وأخرى تنتظر بشوق من لم يأتْ يومه بعد، رغم الصمت المخيف وظلامه لا أعلم لما شعرتُ بالراحة هناك حيث تقترب من اجدادك الذين لم ترهم يوما، خرجتُ بعد ذلك لأمازح من معي ممن دموعهم راحتْ تغزو خدودهم، لأخبرهم بأني عندما أموت سأصاب بالكآبة من الصمت وأريد ان يسمعوني قصائد الرادود باسم الكربلائي التي احبها.
خرجنا من هناك، باتجاه قبور لنا اخرى سمعنا صوت بكاء وناعية كأنه مجلس عزاء سألتُ خالتي عنه قالتْ هذا أربعين لأحد الموتى يقام هنا، لذلك تقام هذه الغرف الكبيرة لأن النساء يأتين لإقامة مجلس اربعين الميت في قبره، أو يقام في مقام الامام المهدي (عج) الموجود بين القبور، هنا رددتُ (إن بعض الظن أثم) لظني السابق، حقا لا اعلم لما لم ترق لي فكرة البكاء عند القبر لأني لو زرتْ احدهم واستقبلته بالبكاء سيتألم حتما، ثم خرجنا من هناك نظرت الى هذا التجمع المهول من البشر وانا أردد أبيات للامام الهادي عليه السلام:
أين الوجوه التـي كانـتْ منعمـةً
من دونها تُضربُ الأستارُ والكللُ
فافصـحَ القبـرُ عنهم حيـن ساءلـهـم
تلك الوجوه عليهـا الـدودُ يقتتـلُ
قد طالما أكلوا دهراً وما شربـوا
فأصبحوا بعد طول الأكلِ قد أكلوا
وطالما عمّـروا دوراً لتُحصنهـم
ففارقوا الدورَ والأهلينَ وارتحلوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا
فخلّفوها على الأعـداء وانتقلـوا
أضحت منازلُهـم قفـراً معطلـةً
وساكنوها الى الاجداث قد رحلوا..
اضافةتعليق
التعليقات