في سالف الزمان (1) طغت جبروت القحط وراحت غيلانه المتوحشة تتسكع في أرجاء بني إسرائيل، لا يفوتها زقاق ولا حي من الأحياء إلا هاجمته بأنياب الجوع ومخالبه الجارحة.
شحت السماء بمائها، وعقمت رحم الأرض القاحلة، وهي ترمق الشعب شذرا، غير آبهة بلطافة الأطفال وآهات الأمهات، ولا ويلات الآباء؛ ضاربة صحاريها الجرداء في أنحاء مصر دون اكتراث.
تحت شجرة تتلوى عطشا حتى يكاد المار يسمع نحيب أوراقه، جلست امرأة شابة طويلة القامة ، مليحة المحيا؛ ذهب الهوان ببريق عينيها الواسعتين، بينما طبعت الصحراء على فمها المتيبس قبلات الخبث وصفير الموت، تسرح أفكارها الحزينة في عوالم بعيدة تنفذ إليها كلما ذكرت المستقبل وما ستؤول إليه الأمور.
ماذا لو استنزفت كل طاقاتها؟!
من سيبقى لولدها الصغير؟!
راحت ترنو إليه من بعيد وهو يحتطب كعادته ليبني بأعواده الصغيرة كل الجسور المتهاوية التي تعبرها أمه في أفكارها، يجوب الصحراء يمنة ويسرة، ليستفزها بدبدبته فوق أرضها كل يوم، وهو يسجل بصمة الوجود في جبين الحياة.
أخذت من مخلاتها التي تكاد تكون خالية، كسرة من الخبز تسد بها رمقها ويقوى بها جسدها الهزيل وإذا بسائل ينادي: يا أمة الله الجوع!
نظرت في الأنحاء؛ كان رجلا كهلا، أسمر اللون تتدلى خصل الشيب العتيق من أزلافه، زادت خطوط الوهن تجاعيد جبهته المتعرقة وقد أخذ الضعف منه كل مأخذ.
بدت نظراته المتوسلة تحكي حكاية صراع مرير وهي تستجدي رمقها الأخير.
اغتصبت شفتها ابتسامة ربما أخفقت عن ستر حزن كظيم، وراحت عيناها العسليتان ترويان ظمأ الصحراء بفيض الحب والإيثار.
مدت ذراعها مناولة قطعة الخبز إلى السائل، وقد حف شعرها بجانبي وجهها فكأنها زهرة آلت إلى الذبول.
ابتعد الرجل وتوارى في السراب آخذا معه آخر شعاعات الأمل.
لم تمض فترة وإذا بها تلمح من بعيد ذئبا مفترسا حمله الجوع ليندفع اندفاع السهم خلف ولدها الصغير كهبة واحدة لا تخيب؛ التقمه في ثوان وهو يجري به الصحراء مبتعدا كلحظ العيون.
أخذت المرأة تعدو بكل ما اوتيت من قوة وطاقة دون جدوى، سرعان ما راحت نغزات اليأس تنخر في أطرافها، مستعدة لكارثة لم يترك الزمان لها خيارا مفصلا لدرئه.
في عمر نفضة قلب تعيد الحياة أوحى الله عز وجل لجبرئيل عليه السلام فأخرج الغلام من فم الذئب الكاسر، ودفعه إلى أمه مخاطبا إياها يا أمة الله أرضيت؟!
لقمة بلقمة.
اضافةتعليق
التعليقات