الولادة الآمنة والحماية من العنف وإتاحة وسائل منع الحمل بديهيات المرأة محرومة منها حتى حين يغيب الصراع.
في السودان، تصاعد العنف الجنسي والجوع الشديد مع مرور عام على اندلاع الحرب، وفي رفح الفلسطينية الحسرة والخوف يتصاعدان فالجميع محاصر بلا مهرب والنساء والفتيات يتجرعن مرارة مضاعفة، وفي غزة منذ اندلاع حرب القطاع النساء والفتيات يستخدمن قطعاً غير معقمة من القماش بدلاً من الفوط الصحية أثناء الدورة الشهرية، والنساء يلدن قبل الأوان بسبب الرعب، وفي غزة أيضاً الهجمات المتواصلة وانهيار منظومة الصحة والسلامة تجعل النساء والفتيات يواجهن تحديات لا يمكن تصورها.
أما في سوريا، فعاملات صحيات يقدن مساعدة النساء والفتيات منذ اندلاع الأحداث قبل 13 عاماً، وفي اليمن ومع استمرار الصراع، أزمة صحة نفسية عارمة تضرب الجميع، لا سيما النساء والفتيات.
أجسادهن حلبة صراع
أجساد النساء والفتيات في العالم، خصوصاً في أماكن الصراع والكوارث والطوارئ، تتحول إلى "أرض معركة"، ومنها ما يتم الدفع به ليكون حلبة صراع موازية للحرب الدائرة رحاها بين المتحاربين بالدبابات والمدافع والمسيّرات والصواريخ. وحتى في الأماكن التي لم تُبتلَ بالصراع، فإن بديهيات مثل ولادة آمنة وحماية من العنف القائم على النوع وإتاحة وسائل منع الحمل غير المرغوب فيه غير متاحة لأعداد مرتفعة من النساء، على رغم أن أعداداً متنامية من البشر باتوا يعرفون أن حق المرأة في خدمات صحة إنجابية لائقة هو حق من حقوق الإنسان، لا رفاهية أو اختيار. لكن ما جرى في العالم على مدى عام مضى يشي بأن خيوط حقوق النساء والفتيات الصحية باتت أكثر تعقداً وتشابكاً.
اختيار عنوان "حياة متشابكة، خيوط الأمل: إنهاء عدم المساواة في الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية" لتقرير "حالة سكان العالم" السنوي الذي يصدر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان اليوم الأربعاء لم يأتِ من فراغ، فهذا التشابك مفزع وحياة امرأة أو فتاة في العام الـ 24 من الألفية الثالثة يمكن أن تكون على المحك لمجرد أنها أنثى تنتمي لفئة اقتصادية أو عرق أو وطن بعينه.
المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان ناتاليا كانيم قالت قبل إطلاق التقرير إن المكاسب العالمية الكاسحة التي تم إحرازها على مدى العقود الثلاثة الماضية تشوهها حقيقة قبيحة، إذ إن ملايين النساء والفتيات حُرمن من جني المكاسب لأسباب تعود لهويتهن أو المكان الذي ولدن فيه، أو لأنهن وجدن أنفسهن محاصرات في صراع أو حرب، وهؤلاء النساء والفتيات أكثر عرضة للموت لأنهن يفتقدن الرعاية الصحية المناسبة في الوقت المناسب.
أزمات النساء والصراعات
توقيت صدور تقرير "حالة السكان السنوي" يتزامن هذه العام ووقوع ملايين النساء والفتيات في أماكن صراع عدة، وبحسب التقرير الذي حصلت "اندبندنت عربية" على نسخة منه، فإن أكثر من نصف وفيات الأمهات التي يمكن الوقاية منها تحدث في الدول التي تعاني صراعات وأزمات إنسانية، حيث ما يقارب 500 وفاة يومياً.
حالات الطوارئ الإنسانية تؤثر بصورة مضاعفة في النساء والفتيات والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن والمراهقين، وكذلك أصحاب التوجهات الجنسية المتنوعة. وفي الأماكن التي كانت تعاني أصلاً عدم المساواة بين الجنسين والتمييز ضد المرأة، تتفاقم معاناة النساء والفتيات في أوقات الأزمات والصراعات وترتفع احتمالات تعرضهن للعنف القائم على النوع بصورة واضحة.
وليس هناك أوضح من التقارير التي أوردها صندوق الأمم المتحدة للسكان عن عدد كبير من حالات العنف الجنسي المروع في السودان على مدى عام مضى من الحرب، إذ سجل حالات اغتصاب وخطف وزواج قسري وزواج أطفال والقائمة تطول. وبحسب الصندوق، فإن عدداً مذهلاً قوامه 6.7 مليون مواطن ومواطنة في السودان بحاجة ماسة إلى حماية من العنف القائم على النوع، لكن الحرب زرعت في نفوس أولئك الذين يحصلون بالكاد على خدمات صحية أو دعم أو عدالة، وغالبيتهم من النساء والفتيات، رعباً غير مسبوق.
عنف وجوع
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فإن العنف الجنسي الذي يستخدم أداة من أدوات الحرب وبصورة عشوائية، أضيفت إليه مستويات كارثية من الجوع في السودان، وبات المهاجمون يستخدمون اليأس سلاحاً لتحقيق المكاسب لمصلحتهم.
تحدثت "سارة" (14 سنة) (اسم غير حقيقي) عن مصيبتها، إذ نفد الطعام في بيت أسرتها بعد اختباء العائلة لمدة شهر، فخرجت مع شقيقتها بحثاً عن طعام، فهاجمهما ثلاثة رجال مسلحون، فرت شقيقتها، لكن الرجال اغتصبوها وتركوها ملقاة على الأرض، ومآسٍ شبيهة بطلاتها نساء وفتيات بين من تعرضن للاغتصاب أو الخطف أو التجويع، أو كل ما سبق.
وفي السودان أيضاً، لم يسلم نظام الرعاية الصحية من الانهيار، فخرجت نحو 80 في المئة من المستشفيات من الخدمة في المناطق المتضررة من النزاع، ونقص الإمدادات والعاملين الصحيين الذين أصبحوا نازحين جعل النظام الصحي عاجزاً عن تقديم الخدمات لمن يحتاج إليها، بما في ذلك نحو 150 ألف سيدة نازحة وحامل.
حوامل غزة
النساء الحوامل في غزة لسن أفضل حالاً، وبحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن مستشفى الهلال الأحمر الإماراتي في رفح هو أحد المستشفيات القليلة العاملة المتبقية في جنوب غزة. تحكي إحدى الممرضات عن تعاملها مع 78 حالة في ليلة واحدة. وعلى رغم تزويد الصندوق للمستشفى بالإمدادات الأساسية للنساء الحوامل مثل الأدوية ومستلزمات الصحة الإنجابية وصحة الأم، إلا أن المنشأة الصغيرة غير مؤهلة للتعامل مع كارثة بهذا الحجم.
وتقول الممرضة إن "غالبية النازحين موجودون في مدينة رفح، وكل العبء يقع على عاتقنا. ويوجد عدد قليل جداً من القابلات وعدد قليل جداً من الأسرّة وعدد قليل جداً من الأطباء".
يصف العاملون رعبهم بينما يتدفق عدد لا يُحصى من الجرحى والمرضى، وبينهم نساء حوامل وأمهات جدد ورضّع، ويقولون إن نسبة وفيات الأطفال حديثي الولادة مرتفعة لأن الأمهات لا يتمكّنَ من إجراء فحوص ما قبل الولادة أو بعدها، أو بسبب عدم وجود من يرافقهن إلى المستشفى. ووصل الأمر إلى أن معظم النساء الحوامل في جنوب غزة يتوفقن عن المتابعة منذ الشهر السابع للحمل ويأتين فقط للولادة.
ويتحدث اختصاصي طب الأطفال في المستشفى أحمد الشاعر عن الرعب والقلق جراء القصف المتواصل والفرار بحثاً عن النجاة، مما يؤدي إلى الولادة المبكرة، قائلاً إن "الولادة المبكرة تمثل تحدياً في الأيام العادية، فما بالكم الآن؟! الوضع مأسوي".
وضع مأسوي
وضع مأسوي آخر للنساء والفتيات، ولكنه ممتد منذ أعوام الصراع في سوريا، ومع النقص الحاد في التمويل الذي يؤثر سلباً في النظام الإنساني برمته، اضطر كثير من مرافق التوليد الطارئة ورعاية الأطفال حديثي الولادة إلى تعليق خدماته في المناطق الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية والوسطى من سوريا.
وتظهر بيانات الصندوق أن في شمال غربي سوريا وحدها، تركت هذه التحديات نحو مليوني شخص يحصلون بالكاد على أي شكل من أشكال الدعم الحيوي، ونحو نصف مليون سيدة وفتاة لديهن وصول محدود فقط إلى خدمات الصحة الجنسية والإنجابية الحيوية.
ولحسن الحظ أن عدداً من مقدمات الرعاية الصحية اللاتي تسعى إليهن النساء والفتيات للحصول على الدعم والخدمات، ليس أثناء الحمل والولادة فحسب، ولكن أيضاً استجابة للممارسات الضارة مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي، يعملن بصورة جيدة ونجحن في سد فجوة كبيرة.
يشار إلى أن أعداداً متزايدة من النساء السوريات يعانين اكتئاب ما بعد الولادة، وجانب منه يعود لاستمرار وطول أمد الأزمة في البلاد.
آمال وأزمات
ورداً على سؤال لـ"اندبندنت عربية" عن استمرار الأزمات وطول أمدها وتفجر الجديد منها يبدو على طرف نقيض من أي حديث عن آمال الحقوق المتساوية أو أمنيات السلام والاستقرار اللذين يتيحان أجواءً مناسبة لضمان وصول النساء والفتيات إلى حق أصيل من حقوقهن ألا وهو خدمات الصحة الإنجابية والجنسية، وهي الحقوق التي وردت في التقرير، قالت المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان ناتاليا كانيم إن "الصراع هو نقيض ما تحتاج إليه المرأة. الصراع الذي يفصل النساء عن الخدمات ويغذي عدم المساواة، لا سيما بين اللاجئين والنازحين هو أسوأ ما يمكن تخيله. ونحن (الصندوق) نقدم كثيراً. والنساء والأطفال هم الأكثر تعرضاً للحرمان من الخدمات في أماكن الصراع، وغزة ليست استثناء. لدينا السودان وهايتي وغيرهما".
وتضيف كانيم أن "العنف القائم على النوع هو أحد أكثر الكوارث الناجمة عن الحروب فداحة. وللأسف يتم التعامل مع أجساد النساء باعتبارها امتداداً لأرض المعركة. العالم حالياً يعيش حال أزمة طويلة الأمد".
تراجع الإنجاز
وهذا العام، يتزامن إصدار التقرير السنوي عن "حالة سكان العالم 2024" والذكرى الـ30 للمؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي عقد في القاهرة عام 1994. في ذلك العام، التزمت 194 حكومة دمج الحقوق الصحية والجنسية والإنجابية ضمن منظومة التنمية المستدامة. وينبه التقرير إلى أن ما تم إنجازه قبل ثلاثة عقود معرض اليوم للخطر. فملايين النساء والفتيات متخلفات عن الركب والتقدم يتباطأ أو يتعثر ويكفي أن 800 امرأة يمتن يومياً أثناء الولادة، وهو العدد الذي تضاف إليه وفيات النساء في أماكن الصراع أثناء الولادة لنقص أو غياب الخدمات الصحية تماماً.
تقول كانيم إنه "خلال جيل واحد، تم خفض حالات الحمل غير المقصود بنحو الخمس، ووفيات الأمهات بنحو الثلث، وصدرت قوانين تناهض العنف المنزلي في نحو 160 دولة، ولكن وعلى رغم هذا التقدم، إلا أن عدم المساواة داخل المجتمعات وبين الأنظمة الصحية وبعضها بعضاً، آخذ في الاتساع. ونحن لم نتخذ الخطوات اللازمة والكافية للوصول إلى أولئك القابعين بعيداً من الركب، مما يعني أن عملنا غير مكتمل، ولكن إصلاحه ليس مستحيلاً".
وضمن الإصلاح الممكن، أشارت كانيم إلى ضرورة اتباع واحترام قواعد الحرب، وأضافت أن "أوضاع النساء في الحروب تكون بالغة الحساسية. واستهداف مقدمي الخدمات ومقدمي الرعاية الصحية تحديداً يجب ألا يحدث أبداً، واستهداف أقسام التوليد ورعاية الأمهات يجب ألا يحدث أبداً. وقد انضممت إلى الدعوة العالمية من أجل إحلال السلام، السلام الذي يمكّن النساء والفتيات من الحصول على أكثر حقوقهن بديهية، أي الحق في الصحة والخدمات. ومصير هؤلاء النساء والفتيات مسؤولية في أعناق الجميع".
يشار أن ما يزيد على 10 آلاف امرأة قُتلن منذ بدء حرب القطاع في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بينهن نحو 6 آلاف أم تركن نحو 19 ألف طفل يتيماً. كما أن ما يزيد على مليون امرأة وفتاة في قطاع غزة يواجهن شبح الجوع، بسبب عدم إمكان الوصول إلى الطعام أو مياه الشرب الآمنة، أو حتى الحمامات الصالحة للاستخدام الآدمي، مما يهدد حياتهن. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات