في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وإذا به يشعر بأنياب المرض تقتربُ منه كالأفعى ولا يدري متى ستبتلعه، مدّ يديه التي لا تكادُ تكفّ عن الإرتعاد وبصعوبةٍ محاولاً امساك القلم وبعضاً من أوراقٍ باهتة البياض.
إلّا أنّ القلم لم يُسقط بالكلمات كدأْبه بل الدموع هي التي انهمرت فوق تلك الأوراق راسمةً نهر الأحزان الذي هو غارقُ فيه، فوجهه المنهك وقلبهه المثخّن بالجراح لم يكن بسبب مرضه مطلقاً بل هو ألَم الفراق الذي حال بينهُ وبين صحته.
أخذَ ينظر إلى تلك الصورة التي رُسِمت فيها ابتسامته مع زوجته وطفله وتمتم بكلماتٍ تغمرها الحسرة، لطالما كانوا سبب راحته ومصدر سعادته حتى وافاهم الأجل ليتركوه وحيداً على فراش المرض!.
لم يمض الكثير حتى داعبَ النومُ عينيه الذابلتين، وغطّ في نومٍ عميق حتى لامست أشعة الشمس وجهه، حينئذ رفع جسدهُ بثقل كي يأخذ اقراص الدواء لتسرح نظراتهُ بعدها إلى تلك الساعة المعلّقة وهو يحدّثُ نفسهُ قائلاً: ما فائدة الوقت وانا ليس لديّ وظيفة أو مشاريع أقوم بها، واذا بصرير الباب يقطع سيل تفكيره، أشاحَ نظره صوب الممرضة التي اعتادت جلبَ الحساء اليه والإطمئنان على صحّته. وقبل ان تهمّ بالخروج أخبرتهُ بأن هناك من جاء لزيارته والسؤال عنه عندما كان غارقاً في النوم.
فاصفرّ وجهه من الدهشة واشتدّت نبرة صوته: من.. من الذي أتى؟!
أجابت ببرود: لم يُعلمني بإسمه لٰكنّه اخبرني بأنّهُ سيعاود زيارتك في السابعة مساء هذا اليوم.
وما إن غادرَت بهدوء حتى وجدَ الأفكار تدورُ كزوبعةٍ داخل رأسه، فمن يكون ذلك الشخص وهو لا يملك أقارب؟
استمرّ التهيّج داخلهُ والعرق لا زال يتصبب منهُ بغزاره، والساعة التي طالما كانت زينةً عنده أصبحت قيمتها الحقيقية جليّةً أمامه.
ولملم النهار ماتبقى من ضوئه بقدوم ذلك الرجل وما إن استأذن بالدخول حتى أُذِن له. لقد كان شاباً في الثلاثين من عمره، متوسط القامة، قسماته تنمّ عن حسنِ خُلقه، وبينما وضعَ باقة الورود حتى ألقى التحيّة والإبتسامة لا تغادِرُ وجهه.
_ ألا تتذكرني أيّها العم؟
أنا... آس!_ لا تعتذر من البديهي أنّك لا تذكرني لأننا لم نلتقِ منذ عشرين عام!
فأجابهُ والذهولُ يملأ عينيه: عشرين عاماً؟!
_ أجل.. ذلك اليوم الذي اصبحتُ فيه يتيم الأب، لقد كنت الشخص الوحيد الذي يمسحُ على رأسي ويقدّم لي الحلوى.
توقف لبرهه ولم يمضِ طويلاً حتى استأنف حديثهُ قائلاً:
_ لقد أخبرتني بأننا لم نُخلق إلّا لنبتلي وإنّ صبرُنا على فقد الأحبة هو أعظم صبراً عند الله تعالى فلا بدّ أن نجازى عليهِ أحسن الجزاء، أوصيتني بالدعاء لأبي كلما اشتقتُ إليه. أنا مدينُ لك يا عم!.
اغرورقت عينا العجوز بالدموع، فقد كانت تلك الكلمات التي قالها لذلك الطفل في معروفٍ عابر بالنسبة إليه هي بلْسماً لجراح قلبه الآن.
كلّما شعر بالضيق فتح مصحفهُ ليرتّل ما تيسّر منه ويهدي ثواب آياته إلى أحبته، ثمّ يقول: اللهم إني اشتقتُ لأرواحٍ لن تعود فاجعلها يا الله في جنّات النعيم.
اضافةتعليق
التعليقات