بدأ للإمام الحسن (عليه السلام) أن النكوص الذي به أصحابه، لا ينتزع نصراً محتملاً، ولا يحقق تأثيراً ضد النظام، ومتى كان العجز حليفاً للمحاولات النضالية فإنها تبوء بالفشل والإخفاق، وقد تكلف القائمين بها ثمناً باهضاً لا يرجى معه أي تعويض عن الخسائر البشرية أولاً، وعن الاهتزازات النفسية، والمنطق السياسي المركز لا يؤمن بالتحرك الانتحاري المرتجل الذي لا يصل إلى درجة النضج عملياً.
إذ ليس له تأثير بالغ منشود بل قد يكون التأثير سلبياً، يجهز على بقية المخلصين من رجال الإمام وأتباعه، وقد يستأصل شأفتهم، فتكون الخسارة كبيرة في الأرواح والنتائج، ولما كان معاوية قد حصن حکمه بالمال والقوة وبجمهرة من الانتهازيين والوصوليين، كان من الصعب اجتياح كل ذلك بيسر وسهولة، وكان على الإمام الحسن (عليه السلام) أن يوقف الصراع ظاهرياً ريثما تتفاعل الأسباب العاملة على إنجاح المعارضة في الأقل، أو على اختراق حاجز الخوف في أحسن الأحوال، وهذا هو الذي دعاه ودعا الإمام الحسين (عليه السلام) معاً إلى التريث حتى حين، وإلى تجاوز المؤثرات الفعلية التي سلبت روح النضال .
وكان رأي الحسين (عليه السلام) أن لا يثور في عهد معاوية، وهو يأمر أصحابه بأن يخلدوا إلى السكون والهدوء، وأن يبعدوا عن الشبهات.
وهذا يوحي لنا بأن حركة منظمة كانت تعمل ضد الحكم الأموي في ذلك الحين، وأن دعاتها هم هؤلاء الأتباع القليلون المخلصون الذين ظن بهم الحسن (عليه السلام) عن القتل فصالح معاوية، وأن مهمة هؤلاء كانت بعث روح الثورة في النفوس عن طريق إظهار المظالم التي حفل بها عهد معاوية انتظاراً لليوم الموعود.
ولم تكن فترة الانتظار اعتباطية، ولا العمل السري فيها دون مسوغات، فالحسين (عليه السلام)، وهو رمز الكفاح الثوري الدائم لم تتهيأ له طيلة حكم معاوية أسباب الثورة، ولم تستكمل لديه أداتها، فقد كره الناس القتال بعد صفّين زمن أبيه وقد كره الناس القتال أيضاً زمن أخيه، وقد اعتاد المجتمع هذا التخاذل المشين، ورضي الناس حياة الذلّ، وسلبت من الشعب المسلم - إلا قليلاً - روح النضال بتأثير عوامل نفسية أهمها الرعب والذعر من البطش الدموي الذي انتهجه معاوية.
وهناك مؤثرات اجتماعية أفاد منها معاوية في المعركة أبرزها ضرب القبائل العربية بعضها ببعض كما سبق القول فيه، وهناك مؤثرات اقتصادية قعدت بالهمم عن النهوض، وشلت الحركة الثورية عن الانتعاش، فما إن ينجم قرن من الناس يتحسس أوضاع البلاد حتى تسكته الأعطيات الضخمة فتطيب نفسه عن الإنكار، فقد حدث أن استنكر مالك بن هبيرة السكوني مقتل حجر بن عدي، وعسى أن يكون قد فكر بالانتقام له ولأصحابه، ففاجأه معاوية بأن أرسل إليه مائة ألف درهم، فأخذها وطابت نفسه.
وكانت الأموال تصرف بسخاء على الطبقات المتنفذة ورؤساء القبائل، مما صرف المجتمع عن التحرك بالاتجاه المعاكس للنظام، بل لقد كان التمويل للانتهازيين سبيلاً لتثبيت النظام، فقد أرسل المغيرة بن شعبة وفداً لمعاوية أرشاه بثلاثين ألف درهم يمهد بذلك لبيعة يزيد، وكان عليهم موسى بن المغيرة، فالتفت معاوية إلى ابن المغيرة هامساً بأذنه: (بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ فأجابه: بثلاثين ألف درهم. فضحك معاوية وقال: لقد هان عليهم دينهم).
وكانت هناك مؤثرات عقائدية كان لها الأثر الفاعل في التطويح بحياة النضال، وتتمثل تلك المؤثرات بضعف الوازع الديني في النفوس، وتضاؤل سلطان الهدى على الضمائر، فقد ابتعد أغلب الناس عن الدين، وألفوا حياة البذخ والترف، وتطلعوا إلى مجالس اللهو والمجون، فترى في القصور الملاهي والمعازف، وترى في الشباب النزوة والفورة والاستهتار، وفيما بينهما تغيب رؤية النضال، وتستبد حياة الرفاه والزهو، فيقبل الناس على الدنيا في ملذاتها، ويبتعدون عن الإسلام في تضحياته ومثله العليا.
إن ما قدمه البحث من نماذج تحليلية كثيرة من خلاله حول تأثير هذه العوامل والأسباب يخلص بنا إلى القول أن جملة هذه المؤثرات هي التي سلبت روح النضال إلى حين في الحياة الإسلامية العامة .
اضافةتعليق
التعليقات