لو لم يمُتْ الإمام علي (عليه السلام) من قوة ضربة ابن ملجم لمات من أثر السم؛ فقد وصف اللعين ضربته بقوله: "فوالله لقد اشتريتُ سيفي هذا بألف وسممتُه بألف، ولو كانت ضربتي هذه لجميع أهل الكوفة ما نجا منهم أحد"!.
يومان وليلتان هما الفاصل الزمني بين جرح الإمام (عليه السلام) واستشهاده، كان وقتاً عصيباً على الهاشميين؛ مثقلا بالهمّ والبكاء والترقّب الموجع للقلوب .
أما الإمام (عليه السلام) فقد كان هادئاً مطمئناً ثابت الجَنان -كعادته- لم يستسلم لجرحه المميت، وألمه الرهيب، لم يغفل عن دوره كإمام مهمته هدايه الأمة؛ فرغم ظرفه الحرج كان يعطي للناس دروس الصبر، والشكر، والعفو، والإحسان، والعدل!
كانت ساعاته الأخيرة مفعمة بالوصايا التي تُعتَبرُ منهجا متكاملا ودستور حياة، كان عليه السلام يكابد آلامه ليضع بين يدي رعيته آخر كنوز هدايته؛ فلو لم يوصي الإمام طوال حياته إلا بتلك الوصايا لكانت كافية لترسم للأمة طريق الرشد والنجاة.
وعندما حانت ساعة الرحيل، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وتعرج روحه المقدسة إلى بارئها أوضح لبنيه طريقة تشييعه ودفنه: "إذا أنا متُّ فاحملاني على سرير ثم أخرجاني واحملا مؤخر السرير فإنكما تكفيان مقدمه ثم إتياني الغريين فإنكما ستريان صخرة بيضاء تلمع نورا فاحتفرا فيها فإنكما تجدان فيها ساجة فادفناني فيها" .
فحملوه تحت جنح الظلام، تقودهم خطى الملائكة، أودعوه مثواه الأخير سرا، وأخفوا موضع قبره كما أوصاهم !.
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم أن دولة القاسطين ستقام وشيكا، وستحكم الشجرة الخبيثة أمّة الإسلام، تلك الدولة التي تُدين لله ببغض عليّ، وتتقرب إليه بلعنه على منابرها، وفي أعقاب صلواتها، فلا يأمن أن تُنتهك حرمة قبره الشريف! وبهذا بدأ فصل جديد من فصول الظلم للوصيّ !.
فكم حينٌ من الدهر مرّ على الأمة وقبر عليّ (عليه السلام) مجهول لا يعرف موضعه إلا الأئمة من ذريته، وكم أبقى أعداؤه في ذاكرة الأجيال من المعرفة بمكانته وسابقته في الإسلام؟
لقد اجتهد الأمويون، وتفنّنوا في مشروعهم لطمس ذكرى عليّ (عليه السلام)، وازالتها عن خارطة الوجود، وساروا على خطى من سبقهم في محاربة سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي تذكر فضائله ومناقبه، وتلزم الأمة بإمامته وطاعته، نكّلوا بشيعته التي تردد تلك المناقب وتتغنى بها ليلا ونهارا.
فعندما استلم معاوية الحكم رفع مذكرة إلى جميع عمّاله وولاته جاء فيها: "انظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه".
وشفع ذلك بنسخة أخرى جاء فيها: "من اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره"، فكان شيعة الكوفة أشدّ الناس بلاء بهذه المراسيم الجائرة .
وتصاعدت وتيرة الإرهاب ضد شيعة أهل البيت ففي مرسوم آخر للخليفة الأموي جاء فيها: "برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته " .
ولأن الناس على دين ملوكها صار الخطباء في كل ولاية، وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرأون منه، وينسبون له كل منقصة، وصار وعّاظ السلطة يتقرّبون إلى أسيادهم بوضع الأحاديث الكاذبة في ذمّ عليّ (عليه السلام)، وفي مدح أعدائه، فكثرت الروايات في فضلهم ومناقبهم كذباً وافتراء على الله ورسوله، وشاعت وتداولها الناس حتى صارت أمرا واقعا .
ومن أغرب ما روي في التزلّف إلى الحكام ببغض عليّ (عليه السلام) دخول أحدهم على الحجاج مناديا: "أيها الأمير إن أهلي عقّوني وسمّوني عليا وإني فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجاج وقال: للطفِ ما توسّلت به قد وليتك موضع كذا".
قرن من الزمان وقبر الإمام علي (عليه السلام) مخفيّ لا يعرف موضعه سوى الأئمة الذين كانوا يزورونه سرا؛ حتّى أظهره الإمام الصادق (عليه السلام)، عندما استدعاه المنصور العباسي إلى الحيرة، فمرّ على أرض الغريّ، وزار جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان برفقته صفوان الجمّال، وبعد الزيارة أذن لصفوان أن يعرّف الشيعة بموضع القبر، وأعطاه بعض الدراهم لإصلاحه .
ومنذ ذلك الوقت صار الشيعة يزورون قبر إمامهم، يقرؤون الزيارات المأثورة عن أبنائه المعصومين، الزاخرة بذكر مناقبه وفضائله، الهادفة إلى إنصافه وإحياء ذكره خصوصا زيارة الغدير المروية عن الإمام علي الهادي والتي تعتبر سردا كاملا لتأريخ الإمام عليّ (عليه السلام) ومواقفه الخالدة في تشييد أركان الدين .
وها هو مرقده الشريف اليوم قبلة للعاشقين، ومهوى للأفئدة، تتزاحم ملائكة السماء على لثم أعتابه قبل الزائرين؛ لأن نور الله لا يُطفأ بأفواه الحاقدين والحاسدين، ولأن الله ينصر أوليائه ولو بعد حين.
اضافةتعليق
التعليقات