السجن.. معقل الكاملين، فمن يختاره الله لذلك، فهو ممن خصه بعنايته ونظره، حباه شمسا للفكرة، واجتباه بيت للقمة، وغذاه غيبا وفيضا من سؤدد.
إن سجن كلمة الصدق، يترك انطباع خزي أبدي، ووصمة عار لكل جبار شقي، فلا هتاف باطل وافد على محاربة ولاية أهل الطاعة، إلا ومزقت أحشاء الريب وقدت إلى نصفين .
السجن صنفان، الأول نوعي، وهو الذي يصنع القرار ويربي قادة، صاحبة نفوذ حتى تؤهله لقيادة أمة ومثاله حقبة الثورات التي سجلها الجنوب الأفريقي الذي كان يأخذ تعليماته من قائده نيلسون مانديلا والذي كان قابعا في السجن أبان النفوذ البريطاني آنذاك لمدة ثلاثين سنة مدة كانت كافية لقلب الحكم على الحاكم حتى خرج من سجنه رغما على أنف سجانه وبيده زمام رئاسة الدولة .
ولنا في تاريخ السجن والقيود من خرج منه مؤلفا يافعا، كما في الشهيد الأول (قدس سره )..
وهذا ما قننه لنا الامام الكاظم (سلام الله عليه)، في أن يكون السجن منطلق لفكرة التحدي .
والصنف الآخر، اللانوعي .. وهو أن يفقد فيه مسجونه كل الامتيازات نضجا وقرارا، الأمر الذي يفقد فيه كل كماليته وقوته .. فيخرج منه دميما ولا علم ينتفع منه .
عند اقتداء الروح ، لعرش الهيبة وسماع الآذان، تسجد صوامع الخجل وتبتهل تضرعا، ومعها سلاسل الوجع، فتروي الفؤاد ذكرا خالدا وسمعا حاضرا حتى تبصر فوائد الروح إلهاما بالنصر القريب ..
الامام الغريب، الراهب الشهيد، الكاظم، موسى بن جعفر (سلام الله عليه) ، عنوان قد استثنى بنهجه، فكان هو الشبيه لجده الحسين عليه صلوات الله قربا في المأساة ..
كافحت السجدة عنده وانتصرت على كسل الروح، سجدت دماء الحسين فداء لله، وارتضت جباه الإمام الكاظم سجودا وعهدا للحسين وحازت لقب ليس له نظير، صاحب السجدة الطويلة راهب آل البيت أنفاسه رؤيا تختلف وضعا وشكلا، أدهش كل الحديد فانصهرت دموع تشارك ترتيلة العليل .
في أتون ذكراه ، تبتهل الرواية وانتجبت عنوانا صادقا رافضا لكل ظلم وظالم ، فسمي إمام الرافضة، هذا موسى بن جعفر ..تبكيك عيني لا لأجل مثوبة ، ولكنما عيني بك مفجوعة مواسية ..
لم يكن في راحلة اليقين ، سوى أن تعلن حربا على من قتلت الوتين ، تقطع رواياتهم الكاذبة إلى أشلاء هاربة إلى فوضى التاريخ لا تحظى بخير سوى نار الحطيم.
كان السجن ، حكاوي قد صنفت جدرانه ملفاة جريمة مقصودة ، وعنصر الحقيقة محفوظ بلبناته المشيدة ، لتبقى الحقيقة واثبة تفصح عن ماجرى بين أطناب حوافره فكل لبنة كانت فكرة وعقيدة وهمس قد حاكى الملائكة ليل نهار وعند أفصاح الفجر عن نوره.
ومن أنفاس الجائر وعينه الفاجرة، جزع مس الذليل منهم ، حتى تطاولت كفه ولطم الامام عليه السلام على وجهه ، فما أشبه يومه بيوم هجوم الدار ولطم جدته فاطمة عليها صلوات الله ..
السجن شاهد وقد انطبعت في ذاكرته تلك المأساة ضيق الطامورة ، وأنين الوجع ، وأنفاس ضاقت تشتاق إلى الرحيل ، وماعسى النور إلا أن يسجد شاكرا لخلوته مع الخليل جملا معتقة بالذكر والدعاء من فم التقى وغيب الضياء المستنير .
قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض).١
الامام الكاظم سلام الله عليه ، عانى واعتنى ، عين منه على سجدته وعبادته، وأخرى على محبيه والتابعين لدين جده وولايته .. فامتزجت دموعهم رهبة ورغبة سعيا لرضا الله وحبا به وكرامة .. فبدى بكائهم حضارة لا ينقطع جريان بركتها على الخلق إلى حين نهايته..
فليس اعتباطا أن يسجن ويقيد ، إنما هي رسالة الدعوة التي عكف عليها ولها لتكتمل القضية على طبق التضحية ، وصفقة مربحة حتى تستمر على ما أراده الله سبحانه.
وبطبيعة الحال، قوى الظلام تحوم حول أهل التقديس لقتلهم وابادتهم ليستقيم الملك لهم ..
فكرسي الظالم عقيم من الرحمة وقد سرق من السجين راحته ومسيرته ، اقرأ أيها الموالي ، واعرف قيمة الكتاب وأهله فإن الحرف يتكلم ويشير ويستغني عن التعريف..
قال الإمام الكاظم (عليه السلام): (يا هشام تمثلت الدنيا للمسيح (عليه السلام) في صورة امرأة زرقاء فقال لها: كم تزوجت؟ فقالت: كثيرا قال: فَكُلٌّ طَلَّقَكِ ؟ قالت: لا بل كلاً قتلت قال المسيح: فويح أزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين.) ٢
ولكن التأريخ يلعن كل من تجافى حق اليقين ، الظالم سقيم فكره وعلمه ، لم يدرك ، أن رسالة الدين تبدع في الوسيلة ويكون أجلها مقيد بدورها ، فحضارة العصمة غير مشتتة، متواصلة الدرب المتين ، تحوم حول العرش والعلماء لهم عون على الدين، ورعا واجتهاد .
كفراشة النور تحلق متى شاءت وكيفما تريد، وبأي صورة حكم لها الغيب اختيارها فلا سجن يقيد، ولا سلسال بهيظ يمنع حريتها، لقد رسم الامام الكاظم (عليه السلام) ، لرسالة السماء جوا مختلفا ، من حيث الفعل والتطبيق، فلم يكن عنده النصر حليف السيف فقط ، بل تمتمة السجن أيضا لها باع طويل للنصرة ، ورسالة تجلي. جعل للسجن نهضة متلائمة العناصر، فواتيرها أيضا باهضة الثمن، ولكنها عالية المضامين ..
لقد جعل الإمام الهمام من الحسنات نعمة، ومن المغفرة رحمة، ومن القوة نصر، ومن الصمت لسان متكلم بآيات الله، فجعل من مسيرة الدعاء تربية وقنطرة ليد التقصير تعينها في مواقف الشدة وتحدد لها سلوك منظم للنفس والروح، وسخر للأخلاق قيمة كنوزها مبرمجة عبر أدعيته المباركة .
علم الماضي والحاضر وكذلك المستقبل ، أن الدين مهدد بإضطراب النفس ، يسلب منه الراحة، وكذلك الحياة، وقد أوسع فهم المتلقي للحقيقة ، بأن الجهاد لا يقتصر على حدود فربما تهاجم وأنت في ظهراني مساحتك وبيتك وبقعة عطاءك ، وقلمك وجهدك ، وكلماتك الوجيزة، مسيرة المثابرة والبصيرة في الحياة، يعتريها الزلزال فكل فكرة استقامة لها عثرة على عافية كل فرد تشمل كل نواحي صحوته ..
وقد أوصل الإمام الكاظم بفضائله ومسيرة جهاده درسا لعموم تابعيه، أن الرفض لا يختصر على موقف واحد بل يتعدى سنينا من الجهد من الممكن أن نفقد فيه الخليل والصديق والأحبة وكل النعيم .
قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): (ابلغ خيرا وقل خيرا ولا تكن إمعة) ٣
أي سيف كان لسانك سيدي، وكيف جعلت من هجاء أدعيتك ربوة قرار للمحتاجين، فكنت للجوشن دعاء، وللعلم شفاء، ولمسيرة النهج عطاء لا يضمخل، كنت أنت الخاطرة التي تجوب الشعر، وتصنع منه ذوبان للروح في نور التكوين ..
قال الإمام الكاظم (عليه السلام): يا هشام قال رسول الله (صلوات الله عليه وآله)، إذا رأيتم المؤمن صموتا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة و المؤمن قليل الكلام كثير العمل والمنافق كثير الكلام قليل العمل). ٤
أي تهذيب وأي كتاب اتسعت أبوابه لعلمك وقد تجلدت مفاصلك على رقي الخلق والصبر والدموع السامية وقد علمت الأجيال معنى الصمت، والانعزال، والكفاح، وعرفتهم معنى التقية حتى أوفدت من عطاياك مناهل الرحمة لكل من عاصرك وغاب عن نصرتك، وكل من هاج قلبه شوقا لزيارتك، ألا لعنة الله على الظالمين . (إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ).
اضافةتعليق
التعليقات