بسحنة شاحبة وحديث منزوع الدمع وقف ينظر على أطلال القادة، فلان يتعهد وفلان يتمدد ولحية الفقراء تمتد على الأبواب راجية نظرة كادت تقترب من اليأس، عادت جموع الشباب من تلك البوابة وهي تعلم أن قصاصات الورق التي قدمها السيد المبجل ماهي إلا جرعة مخدرة ترسل اشارات للعقل أن الأمل موجود وكأنه بقصاصته رسم لهم مستقبلهم ووقفت الحكومة باكرا مع صياح الديك تنادي أين أصحاب القصاصات ابشروا بالحياة الكريمة.
حتى الآن لا أعي أي مهزلة هذه التي سيطرت على أطراف المؤسسة وجعلتها ترى نفسها دولة، أو بالأحرى أين الدولة إن كان الساسة هم من يضعون الأماكن برؤيتهم المحدودة، بينما المخزي بالأمر لو بحثنا جيدا خلف كل سيد منهم سنجد أنه لا يحمل معه سوى الأموال والعمالة وبعض من الكلمات لا أعلم إن كانت توازي الشهادة التي نتعب لأجلها، وربما اغلبهم لم يصل حتى متوسط الدراسة، وغالبا هذا هو السبب الذي لا يجعلنا ننظر لخلفياتهم الثقافية أو العلمية، فَحسب منظور أغلب الشعب، المال أولاً.
حاولت كثيرا أن أفهم ذلك الغموض الكامن خلف الاختلاف من روح إلى أخرى، ما الذي يدفع أحدنا للشعور بالعظمة والتكبر لشخص آخر يشاركه الكوكب ذاته، ما سر كل هذه المشاعر المعقدة والمتشابكة التي قد تدفع أحدنا لربط سلطانه بتعاسة كائن آخر حتى وإن لم يبادله ذرة، أتساءل وأضع عشرات الإجابات وأختم دائما بالإجابة الأكثر منطقية وإراحة لي: لا أعلم!
ﻳﺤﻜﻰ ﺃﻥ ﺃﻋﺮﺍﺑﻴﺔ ﻭﺟﺪﺕ ﺫﺋﺒﺎ ﺻﻐﻴﺮﺍً ﻗﺪ ﻭﻟﺪ ﻟﻠﺘﻮ، ﻓﺤﻨﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺃﺧﺬﺗﻪ ﻭﺭﺑﺘﻪ ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺗﻄﻌﻤﻪ ﻣﻦ ﺣﻠﻴﺐ ﺷﺎﺓ ﻋﻨﺪﻫﺎ، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺸﺎﺓ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺍﻷﻡ ﻟﺬﻟﻚ ﺍﻟﺬﺋﺐ، ﻭﺑﻌﺪ ﻣﺮﻭﺭ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻛﺒر ﺍﻟﺬﺋﺐ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ، وﻋﺎﺩﺕ ﺍﻷﻋﺮﺍﺑﻴﺔ ﻳﻮﻣﺎً ﺇﻟﻰ ﺑﻴﺘﻬﺎ ﻓﻮﺟﺪت أنه ﻗﺪ ﻫﺠﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﺎﺓ ﻭﺃﻛﻠﻬﺎ ﻓﺤﺰﻧﺖ ﻋﻠﻰ ﺻﻨﻴﻊ ﺍﻟﺬﺋﺐ ﺍﻟﻠﺌﻴﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺮﻑ ﻃﺒﻌﻪ ﺑﺎﻟﻔﻄﺮﺓ ﻓﺄﻧﺸﺪﺕ ﺑﺤﺰﻥ :
ﺑﻘﺮﺕَ ﺷﻮﻳﻬﺘﻲ ﻭﻓﺠﻌﺖَ ﻗﻠﺒﻲ... ﻭﺃﻧﺖ
ﻟﺸﺎﺗﻨﺎ ﻭﻟﺪٌ ﺭﺑﻴﺐ ُ
ﻏﺬﻳﺖَ ﺑﺪﺭﻫﺎ ﻭﺭﺑﻴﺖَ ﻓﻴﻨﺎ... ﻓﻤﻦ ﺃﻧﺒﺎﻙَ
ﺃﻥ ﺃﺑﺎﻙَ ﺫﻳﺐ ُ
ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻄﺒﺎﻉ ﻃﺒﺎﻉ ﺳﻮﺀ ٍ... ﻓﻼ ﺃﺩﺏ ٌ
ﻳﻔﻴﺪ ﻭلااديب.
بهذه البساطة يمكن تفسير تلك اللعبة التي تدور حول البلاد، لا تحكمها قواعد وإنما تغلب عليها الفطرة لذات السلطان الذي لايرى فخامة عباءته إلا اذا امتدت أمتار وحملها العبيد فصارت شيء يثير الحديث ويرسم معالم الفخر المصطنع، حتى يغيب عنه الوعي والمنطق فلايرى الفائدة إلا فيما يحاذي قدماه ومايرسم سلطانه ويرفع شانه، فالكثير من الذين وضعنا ثقتنا بهم ومنحناهم تفويض التصرف بأمرنا وأموالنا لم يكونوا بمستوى التحدي الذي يحيط بنا، تلاعبوا بنا وبكراماتنا بدم بارد، وكان همهم وشغلهم الشاغل كيف يجنوا الأموال من المنصب الذي وضعوا فيه، ولم يراعوا حرمة الأمانة، فهي طباع الذئاب التي لا نرجوا منها إلا الافتراس، والقيادة لهاوية الهلاك والمخاطر وادخالهم في أتون الأزمات التي ليس لها حل ومخرج، فأي راعي وأي عهد قطعناه معه ليقودنا لمذبح الموت.
فماذا لو كان المسؤول عن حماية المواشي يعي حجم المسؤولية لوجدنا القطيع ما تهاوى بين الضياع والافتراس، لأن المتولي على حمايتهم أدرك جيداً أنهم مسؤولون منه ليؤمن لهم حياة آمنة، لذلك اختيار الراعي يجب أن يكون دقيقاً ومستنداً لمعايير موضوعية ومهنية كالتحلي بالمسؤولية والتضحية في سبيل الجميع.
فمن حديث للرسول (صلى الله عليه وآله) قال: (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته).
فما من إنسان إلا قد وكل إليه أمر يدبره ويرعاه، فكلنا راع، وكلنا مطالب بالإحسان فيما استرعاه، فإن قام بالواجب كان أثر ذلك في الأمة عظيما، وثوابه جزيلا، وإن قصر وخان الأمانة، أضر بالأمة، وعسر على نفسه الحساب، لذا يوجهنا النبي صلى الله عليه وآله إلى وجوب القيام بحق الرعية وإرشادهم لمصالحهم، وردعهم عن ما يضرهم في دينهم ودنياهم.
وهنا ننظر قليلا أي ضرر قد يلحق بالمرء أكثر من أن يختار القائد الخطأ وينصب السيد الجاهل ويرفع مقام المتغطرس الباطل ولا ينظر لأصل الراعي وطباعه قبل انشاده، فأهم صفتين لاختيار القادة يتمثلان في التأثير والحكمة وهما لا يمكن اكتسابهما.
إلا أن هناك بعض الصفات يمكن تعلمها كالمهارات والإدارة وغيرها، وقد تتلخص في ثلاثة مؤثرات، علم يكتسب بالتعليم ومهارات تكتسب بالتدريب وسلوك فطري جبل الشخص عليه، فالقيادة قوة يوكل إليها مصائر الناس، وخط سير المنظمة فإما تكون معول لتحقيق نجاحاتها أو إسقاط بنيانها وهنا يبرز العامل الحاكم ومادون ذلك من عوامل تبقى في دور المتغير التابع إلى حد كبير فكل التوابع من إمكانيات في المنظمة من مورد بشري أو غيره تتبع لذلك القائد، فإذا كان طباعه طباع سوء فلا أدب يفيدُ ولا حليب.
يقول زهير بن أبي سلمى:
من يجعل المعروف في غير أهلهِ
يكن حمده ذما عليه ويندمِ.
اضافةتعليق
التعليقات