عم الهدوء الوجود، غابت الشمس وقد اختلطت حرارتها بلهيب الرمل المترامي على مد البصر، رمل تحاول حباته أن تجمع أوصالها التي بعثرتها خطوات الناس المسرعة، هناك من ابتعد عن (خم) محاولاً أن يسبق الشمس ليصل لوطنه البعيد وأسرته التي تنتظره، وهناك من توسد ثرى (خم) ليريح جسده بعد نهار البيعة الطويل، كلهم ارتموا على الأرض الحارة، أغمضوا أعينهم المنهكة، ولكن خيالهم كان لا يزال محموما، يسترجع تفاصيل اليوم، لا يزال صوت النبي صلوات ربي عليه وآله يرن بآذانهم، (علي مولى كل مؤمن و مؤمنة) يتكرر صدى الصوت في الخيالات المحمومة، البعض كان يبتسم وهو يسترجع الكلمات، يتلذذ بها كقطعة حلوى يود أن لا تنتهي، البعض قرب كفه من أنفه يشمها ويقبلها، لا يزال عبق (علي) أمير المؤمنين (عليه السلام) يفوح، عبق ينافس عطور الوجود بأكمله، أولئك المبتسمين السعداء، كان ليلهم طويلا وهم يسترجعون كل حرف بكل نبرة مع كل نظرة، لا يريدون أن تغيب التفاصيل العذبة عن ذاكرتهم المنهكة، ابتسامات فرحة تتناثر هنا وهناك وهمهمات تردد (مولاي علي.. مولاي علي)، همهمات كمعزوفة عشق تعم الصحراء، على القرب كان فريق آخر، فريق يتقلب لا تدري أحرارة التراب تحرقه أم لهيب غيظه يشتعل فيحرمه لذة الرقاد؟ فريق يعتصر بقسوة أكفه المبايعة غيظا وغضبا، يود لو يخنق أصابعه التي يراها خائنة، يتقلب على جمر الحسد والحقد، أحقا ولى النبي علياً؟، يسترجعون الكلمات فيشعرون بها حنظلا يمزق أحشاءهم، يقلبون أمورهم ويعيدون حساباتهم التي تبعثرت اليوم عند أقدام النبي ووصيه، (وصيِه) تلمضوا بالكلمة فبدت ككرة من الشوك تمزق حناجرهم، لفظوها كرهاً وهم يرفضون البيعة التي في أعناقهم، ودوا لو سلوا سيوفهم وبتروا أعناقهم لتسيل البيعة مع دماءهم فتبتلعها رمال الصحراء ويتحررون من حقيقة أن (علي مولى كل مؤمن و مؤمنة)، إن جهنم أحب إليهم من جنة علي، ظلوا يتقلبون غيظا، ومن بين هذه الأجساد المتناثرة هنا وهناك، كان هو، بِطوله المديد ووجهه الذي ينافس القمر جمالاً، كان يتأمل ليل (خم) الهادئ، لقد تمت البيعة له، رغما عن البعض ورغبة من البعض، أغمض عينيه واسترجع لحظة رفع النبي صلوات ربي عليه و آله كفه عاليا حتى كاد يلامس السماء، صوت حبيبه يشق الأفق ووجوه القوم معلقة بهما، وجوه ضاحكة مستبشرة، ووجوه عابسة مستنكرة، تذكر الأيدي تمتد تصافحه مبايعة، أصابع حنونة لطيفة وأصابع كالمخالب قاسية، هو يعلم أن (بخ بخ) وراءها (أحرقوا من في الدار) ، تلك الابتسامات الصفراء ستكشر عن أنيابها قريبا، تلك الوجوه التي اغتصبت الابتسامات اغتصابا ستتوحش قريبا، ارتجف قلبه الرؤوم ، لن يكون الوحيد في وجه العاصفة، حتى فراشته سينالها الأذى و أي أذى، قريبا، لم يرهبه ما ينتظره من ذئاب قومه، كل ما كان يمزقه هو حقيقة أنه سيفارق حبيبه قريبا، هذا الفراق الذي ستنكشف بعده الأوراق، هو عرف الوجود على كفي النبي صلوات ربي عليه و آله، فكيف سيبقى الوجود بدونه، علي بلا محمد، ما أقساه الموت الذي سيفرقهما، خفق قلبه مؤمنا بإرادة الله سبحانه، تنهد حامدا شاكرا، إلهي خذ حتى ترضى، شد أصابعه على سيفه، لا يزال الطريق طويلا حافلا، ولا تزال الابتلاءات على الأبواب، كل الحكايات لها نهاية إلا حكاية علي، بدأت في خم وستبقى ثائرة كموج محيط عظيم ما دامت الحياة، فقط كل إنسان مسؤول أن يختار فريقه، أفي خم أنت، أم في زمان غير الزمان، أنت من أي فريق؟.
اضافةتعليق
التعليقات