لا تنظر الى الناس بعين مجردة، ماتراه و يظهر منهم هو الشكل وليس المضمون، فقد تجد تحت رداء مهترئ انسان مهيب..
ذهبت ذلك اليوم الى المركز الصحي للمراجعة وكالعادة يعج المكان بالمراجعين منذ الساعة الاولى من الدوام الرسمي لاجراء الفحوصات ومراجعة الطبيب المختص بحالاتهم المرضية واغلبهم اتى لأخذ جرعة لقاح للمولود الجديد، كان المكان يومها مزدحما جدا، توجهت نحو مقاعد الجلوس لانتظار وصول الطبيبة، القيت التحية على الجالسات وكن من النساء فقط: السلام عليكم..
فرددن السلام اثنتين او ثلاث منهن وليس جميعهن بصوت منخفض: وعليكم السلام..
إلا واحدة كانت تجلس بمفردها، نظرت الي بابتسامة وردت السلام كاملا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، نظرت اليها، إمرأة في الثلاثينيات من عمرها حسنة الوجه تجلس بحجرها طفلة صغيرة ولكن مظهرها اثار دهشتي؛ كانت ترتدي عباءة مهترءة قد زال سوادها وتحمل (كيسا من الرز الهندي كحقيبة يظهر منها الملف الصحي للعائلة!) وتجلس بكل ثقة متجاهلة النظرات الساخرة وضحكات النساء المارة من مظهرها ونعتها بالجنون، ففي زمننا هذا ترتدي النساء اجمل اللباس لديهن ويتعطرن بأزكى العطور ويهتممن بمظهرهن اكثر من اي شىء آخر.
وبعد لحظات وصل الموظف المسؤول عن توقيع (الباصات) وتسليم الملفات الصحية الى غرفة عمله التي تقع في ذاك الممر الضيق الذي يعج بالمارة والجالسين على مقاعد الانتظار، واذا بتلك السيدات الحسناوات ذوات المظاهر البراقة والمكانة الرفيعة التي تبدو عليهن، بدأن يتزاحمن ويتراشقن الكلمات السيئة ويتسابقن للدخول واكمال الاجراءات الروتينية، ومن المعتاد ان النظام لدينا في الدوائر الحكومية شبه معدوم بسبب عدم سيطرة الموظف المنظم لطابور المراجعين الذين يفتخرون بمظاهرهم!.
إلا تلك السيدة وقفت بهدوء وهي تحمل طفلتها التي تسعل بين الحين والآخر وورقة صغيرة لا تحتاج سوى توقيع الموظف عليها لتدخل الى الطبيب، تعالت الاصوات بالتذمر والثرثرة الزائدة و(كل إناء ينضح بما فيه) بقيت انا جالسة اراقب ما يحصل واثار اهتمامي أمر تلك السيدة وما سيبدر منها، اكتض الممر بالنساء وعمت الفوضى فصرخ الموظف وهو جالس على مكتبه: التزموا الهدوء والنظام والا لن استطيع مزاولة عملي على هذا النحو..
وما كان لكلامه غير انه (زاد الطين بلّة) فقد اشتد النزاع حول تسلسل وقوفهن، فخرج ذلك الموظف من مكتبه وهو منزعج جدا وصرخ قائلا: من تحتاج الى توقيع فلتقف الى اليمين ومن تحتاج الى الملف الصحي فلتقف الى اليسار انقسمن حسب كلامه وهو لا يزال واقفا يناظرهن، حدثته تلك السيدة قائلة: (ساعدك الله اخي ابنتي مريضة جدا ولا احتاج سوى التوقيع على هذه الورقة) وكانت حالة الطفلة تزداد سوءا، فنظر اليها باشمئزاز، وقبل ان يرد عليها حدثته فتاة في العشرين من عمرها قد تبرجت وتعطرت وهي تتقدم نحوه وقالت له بصوت ناعم ومتثاقل: انا لا استطيع الانتظار طويلا هلا اتيت لي بملفنا المرقم (…) فنظر اليها بتمعن ورد عليها مبتسما: نعم بالتأكيد انت تأمري، تفضلي بالدخول لحظات وسأسلمك الملف!!
صعقت من ردة فعله فقد سخر من تلك السيدة الفقيرة مع انها حدثته بلطف وخلق وكانت لا تحتاج سوى حركة بسيطة من قلمه على تلك الورقة لتسعف طفلتها المريضة ولكنه تجاهلها لان مظهرها لم يعجبه وفضل عليها تلك الفتاة المتبرجة التي لا تملك ذوقا ولا خلقا!.
وما ان دخلت تلك الفتاة انتفضن النسوة الاخريات وعادت الفوضى وازدحمن امام الباب وقطعن الطريق، تراجعت تلك السيدة للخلف وقدمت امامها امرأة قد بان عليها التعب الشديد وهي تحمل طفلا حديث الولادة ووقفت بمحاذاة الجدار، واذا بطبيبة قد اتت وتريد العبور الى الجانب الآخر فتوجهت مباشرة نحو تلك السيدة المسكينة وصرخت في وجهها قائلة: (انت، ماهذه الهمجية تنحي من امامي اود العبور) فاجابتها السيدة بهدوء:(متأسفة حضرة الطبيبة وما عساي ان افعل فالممر ضيق والمراجعين كثر والنظام منعدم كما تشاهدين)، فردت عليها تلك الطبيبة: (هيا لا تتفلسفي ابتعدي من امامي، وهي تشير نحوها بحركات الطرد والنفور)، فردت عليها تلك السيدة:(شكرا لك جزاك الله خيرا)..
ذهلت من ردة فعل تلك السيدة، رغم كل الاذى الذي لحقوه بها وهي ترد عليهم باحسن الكلام بقيت اراقبها وهي تتمتم قائلة: (لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، الحمد لله على ما وصلنا اليه من ضعف الحال وعافانا مما ابتلى به بعض خلقه).
ايقنت حينها ان تلك السيدة اصبحت فقيرة الحال مؤخرا فقد كان من الواضح عليها انها ليست من اهل المدينة ومؤكد انها من النازحين، تلك المجاميع من الناس الذين ظُلموا واحتلت بيوتهم وسلبت ممتلكاتهم واموالهم وهُجروا من ديارهم وباتوا يفتقرون لكل شيء، فقد كانت تلك السيدة فقيرة الحال بالمظهر ولم تكن فقيرة المعرفة بالجوهر، وهنا قد غير طابع مظهرها حقيقة شخصيتها الفذة واصبح فقر الحال عبئ عليها ويشوه صورتها الحقيقية لتصبح امرأة جاهلة ومنبوذة من قبل العقول الضعيفة.
بما اننا نعيش في عصر التطور ومواكبة الموضة وتحت تأثير الفلسفة الغربية التي طرأت كل جوانب الحياة فأمسينا نتأثر بالتقدم تحت مسمى الحرية التي اصبحت غير محدودة، فقد اثرت بضعف الوازع الديني عند اغلب الناس فبدأ الكثير منهم يميلون بشكل مباشر الى المظاهر و الشكليات ولا يهمهم مستوى الكينونة وجوهر الانسان، متناسين ان هناك فرق شاسع بين الشكل والمضمون.
لابد لنا ان نكون بمظهر لائق ويستوجب علينا ذلك، ولا شك ان بين الجوهر والمظهر علاقة تأثير وتأثر ولكن الاجدر بنا ان نصب جل اهتمامنا بالجوهر قبل المظهر فالمظهر ليس سوى مجموع ما يمتلكه الفرد من الاشياء وما يقوم به من وظائف وما يميزه من الصفات الجسمية التي لا صلة لها بكينونته الذاتية.
وفي الحقيقة ما يبقى لدينا في ذاكرتنا تجاه شخص قد قابلناه ذات يوم سوى صورة ذهنية عن ما يحمله من خصائص خلقية ونفسية طيبة واسلوب جميل وخبرة عميقة يتسم بها ذلك الشخص.
فقد قال الامام علي (ع) (تكلموا تعرفوا فان المرء مخبوء تحت طي لسانه).
وايضا روي عن الامام الصادق (عليه السلام) ان قد اتاه شخصان متخاصمان لمشكلة بينهما فقال الامام للشخص الضخم (تحدث لاراك)..
فهل يصح ان نقيم الآخرين من ظاهرهم واشكالهم وننسى ما يخفيه باطنهم و معدنهم الاصلي فهو اعمق واكثر اهمية، فالشكل لا يكفي للحكم على الناس بالاستقامة والصلاح، كما قال النبي محمد( ص): (ان الله لا ينظر الى صوركم واموالكم، ولكن ينظر الى قلوبكم واعمالكم).
وكما يقول الشاعر:
لا تركنن الى ذي منظر حسن
فرب رائعة قد ساء مظهرها
ماكل اصفر دينار لصفرته
صفر العقارب ارادها وانكرها
وكما قيل ايضا (لا تحكم على الكتاب من جلده الخارجي)..
يجب على الفرد منا ان يكون ظاهره وباطنه سواء وكلاهما يتوافقان مع شريعة دينه (فاذا وافقت سريرة المؤمن علانيته باهى الله به الملائكة) فعلينا الاقتداء بسيرة حياة نبينا الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأئمتنا الاطهار (صلوات الله عليهم اجمعين).
فلا تنخدع بالمظاهر الجذابة فقد تجد تحت رداء مهترئ انسان مهيب.
اضافةتعليق
التعليقات