حينما تُستبدل الذنابى بالقوادم، فاعلم أنّ هذا هو أول الفساد، بل هو أول مسمار يُدق في نعش الإصلاح.
ليس الحديث عن الغدير حديثا مُفرحا بالمطلق، وليس حديثا يُبث من خلاله الأنس والإنشراح في الصدور عبر التبريكات المتبادلة بين الإخوان، بقدر ما هو حديث ذو شجون، يحمل في طيّاته أوجاعا بعمق الجروح الغائرة في جسد الأمة الاسلامية.
هل كان الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله بدعا من الرسل؟! حتى يُستكثر عليه تنصيب خليفة له ووصي!!
أوَ ليس لكل نبي وصي؟ فما بال أقوام يدّعون زورا وبهتانا أنّ النبي ترك أمّته بلا قيادة تكمل المسيرة.. أليس من الإجحاف حقا لمن يعرف النبي حق معرفته أن يظن لوهلة أنه ترك أمّته هملا بلا راعٍ أو خليفة؟!
حينما خطبت الزهراء سلام الله عليها في نساء المهاجرين والأنصار، أوضحت هذه الحقيقة، ولفتت الأنظار إلى الخسارة الكبيرة التي مُني بها المسلمون، بازاحتهم الرجل الكفوء واستبداله بالذي هو أدنى.. إذ قالت سلام الله عليها: (وَيْحَهُمْ أَنَّى زَحْزَحُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ وَ قَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَ مَهْبِطِ الْوَحْيِ الْأَمِينِ وَ الطَّبِينِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَ الدِّينِ ﴿ ... أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾.
فأيّ خسارة أعظم من هذه الخسارة ، حينما حُرمت الأمّة من الرجل الكفوء ومن القيادة الحكيمة والتي تمثل الامتداد الإلهي لختام الرسالات.؟!
لقد كان في قولها سلام الله عليها استشرافا للمستقبل فيما لو حكمّوه وما استبدلوه بغيره.. فتقول :
(وواللهِ لَو تَكافّوا عَن زمَامِ نبْذَه رسول الله (صلى الله عليه آله) إليهِ لاعْتَلَقَهُ ، ولسَارَ بِهِم سَيراً سُجُحاً ، لا يُكَلِّمُ خشاشُهُ ، ولا يُتَعْتِعُ رَاكِبُهُ ، ولأوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً نَمِيراً ، صَافِياً رَويّاً ، فَضْفَاضاً ، تَطْفَحُ ضِفَّتَاهُ ، وَلا يَتَرنَّقُ جَانِبَاهُ .
ولأصْدَرَهُم بطاناً ، ونَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإعْلاناً ، ولم يكن يحلى من الغنى بطائل ، ولا يحظى من الدنيا بنائل ، غير ريِّ النَّاهِلِ ، وشبْعَةِ الكَافِلِ...).
ما قالته الزهراء عليها السلام في حق زوجها أمير المؤمنين أبي الحسن عليه السلام، ينضوي تحت بند التذكير وإلقاء الحجة عليهم، وإلا فإن عليّا كان معروفا لديهم، ويدركون مقامه وفضائله وقربه من النبي، لكنّ النفوس التي جُبلت على الحسد والبغضاء تأبى الإذعان والخضوع للأمر الالهي بتنصيب الوصي.. لقد أصبحوا مصداقا لهذه الآية الكريمة:
((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)).
فالقوم يعرفون عليّاً بلا أدنى شك، لابد وأنهم قد سمعوا أقوال النبي تصدح في مدحه في كل منعطف من عمر الدعوة، وهم حضروا الغدير وبايعوه بأجمعهم بالولاية والطاعة، حتى قال قائلهم: هنيئا لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، لكن.. أتعرفون ما الذي كان يخشونه في علي عليه السلام؟
كانوا يخشون عدالته، وأقولها بضرس قاطع.. نعم لأنّ عدالته هي عدالة رسول الله كفتان لا تميلان ولا تزيغان قيد أنملة.. فها هم أولاء سمعوا مقالة رسول الله في حقه إذ قال: ((علي كفّه وكفّي في العدل سواء)).
من هنا توجّس القوم الحذر، خصوصا أولئك الذين ركنوا إلى الدنيا، ولم يخالفوا أهواءهم وما تمليه عليهم نزعاتهم الشيطانية.
حادثة الغدير التأريخية بما تسوقه من دلائل واضحة حول الأمر الإلهي للنبي بضرورة التبليغ، تدور روايتها حول محورية الكفاءة والكفاءة كمفهوم تعني فيما تعنيه الأهلية للقيام بالعمل بأحسن صوره..
وأولوية الكفوء ينبغي أن تعمم على كافة المستويات وعلى جميع الميادين وإلا فإننا سنجني الوبال وسوء الأحوال، وسوف يؤدي بنا الطريق إلى القضاء على مستقبل الأجيال القادمة.
الأمم المتطورة والتي شهدت قفزات كبيرة في مستوى معيشتها وتمدنها ورقيّها، ما كانت لتبلغ هذا التطور لولا وضعها أولوية الكفاءة واشتراطها تقديم الكفوء على من سواه.
لكننا لا زلنا نعاني المآسي في وقتنا الحاضر جراء التمرد على هذه القيمة الحضارية.. فالكفاءة هي آخر ما نفكر فيه إذا ما أُنيطت بنا المسؤوليات، فإننا لا نتورع عن استخدام المحسوبيات لتثبيت فلان من الناس على رأس العمل، دون النظر إلى كفاءته وقدرته على اتمام المهام... وليس هذا فحسب، بل وترك الكفوء بلا حول ولا قوة يعاني الأمرّين من الإهمال المتعمّد وتهميشه وٱستبداله بآخر ممن لا يفرّق بين الناقة والجمل.. وقد تعوزه المعرفة والدراية والتجربة.
فإذا كنا من دعاة الاصلاح حقا وصدقا، فإن أولى أولوياتنا هي مراعاة الكفاءة كشرط أساسي لتحقيق الصلاح ورأب الصدع وتكريس النموذج الرسالي القائم على القدرة على تحقيق الآمال وتطبيق العدالة..
والحذر الحذر من تقديم الذنابى على القوادم، فنكون قد حذونا حذو القوم الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
اضافةتعليق
التعليقات