الجميع منشغل بتعليق تلك الفوانيس الملونة ذات الأحجام المختلفة، وهناك من يهتم بكنس الأرصفة ورشها بالماء، والأقمشة الملونة ذات التطريز والنقشات الاسلامية المميزة الجميلة نجدها في كل مكان، ورائحة ماء الزهر والورد والمأكولات تفوح من نوافذ المنازل لتنتشر في الأفق.
الأسواق مزدحمة لشراء الملابس الجديدة والأواني والأطعمة لتحضير الأطباق الشهية، وتبدأ رسائل التهنئة في الهواتف المتنقلة تتوالى.
تلك الاستعدادات ماهي إلا طقوس تعلن عن قدوم شهر رمضان، حيث تمتلئ الموائد بما لذ وطاب من الطعام والشراب وتمتلئ المحطات التلفزيونية بالمسلسلات والمسابقات، ونرى الناس تكتض بالحدائق ومايسمى "بالخيم الرمضانية"!.
ولكن أين شهر رمضان؟
هذا الشهر الذي خصه الله عز وجل بأفضل الليالي وهي ليلة القدر الذي جعل ثواب عبادتها خير وأفضل من ألف شهر كما قال عزوجل [لَيْلَة الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر]١، وكما رد الامام الصادق عليه السلام ذلك السائل حين سأل الامام الصادق عليه السلام: كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟
قال: «العمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر»٢.
ومن حكمة الله عزوجل جعلها غائبة ومجهولة لحث العباد على الاجتهاد في جميع الليالي بالعبادة والتوبة والتقرب لله بالطاعات.
هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن وغدى النوم فيه عبادة والأنفاس تسبيحاً والحسنة مضاعفة،
كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله [أنفاسكم فيه تسبيح, ونومكم فيه عبادة, وعملكم فيه مقبول, ودعائكم فيه مستجاب]٣، شهر الرحمة والصلاح نجد أصوات الموسيقى والأغاني تنافس بل تطغى على تراتيل آيات الله في الليالي والأسحار.
شهر التقرب لله بعدما صُفّدت الأباليس بالسلاسل رحمة ولطفاً بالعباد كما ورد في الحديث القدسي إن الله عزوجل يقول لجبرئيل [أنزل على الأرض فغلّ فيها مردة الشياطين حتى لا يفسدوا على عبادي صومهم]٤.
نجد شياطين الأنس تجتهد لجذب العباد إلى المعاصي والذنوب واللهو والابتعاد عن العبادة والخشوع، فلا نرى طول السنة تلك المسابقات والنساء العاريات المتبرجات إلا في هذا الوقت بل يتنافسن المحطات فيما بينهن أيضا؟!
شهر التوبة والعفو نجد قطع صلة الارحام مازالت مستمرة، والجار الغني لا يرحم جاره الفقير ولا يذكره، فقد ورد عن قال الكاظم (عليه السلام) [فطرك اخاك الصائم خير من صيامك]٥، ولكن للأسف الشديد نجد صفائح القمامة تمتلئ بالأطعمة الزائدة والتبذير والاسراف يكون في قمته ولا عزاء للفقراء والأيتام والبطون الجائعة.
هذا الشهر ما هو إلا رحمة من الله عز وجل وفرصة يمنحها الكريم جل علاه ليجدد المذنب العهد والتوبة، شهر تُقبل فيها الأعمال الصالحة ويمنح فيها صكوك الغفران والعتق من نيران سقر.
ولكن يعتقد البعض انه شهر المرح والسهر والطرب والمأكولات والتباهي بالملابس والكسل والخمول ونوم النهار ولا يعلم من هذا الشهر إلا الجملة المنشودة: "اللهم إني صائم"!
ولكن هل نحن صائمون فعلاً؟
لقد صمنا عن وصل من قطعنا وصلة ارحامنا
لقد صمنا عن اجتناب الذنوب
لقد صمنا عن مواساة الفقراء
لقد صمنا عن التوفير والزهد
لقد صمنا عن العبادات والطاعات
لقد صمنا عن القرآن وأحكامه
الصوم الذي أُمرنا به هو صوم الروح عن الذنوب والآثام وتنقيتها من الأدناس والابتعاد عن مضلات الفتن والتحرر من سجون زخارف الدنيا وتطهير النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل ومكارم الأخلاق قولاً وفعلاً وصلة الأرحام ومعاونة الفقراء والإحساس بمعاناة الآخرين والسيطرة على تلك النفس الأمارة بالسوء وكسر كبرياء الذات والأنفة للعودة إلى الصراط المستقيم وإلا كان صيامنا مجرد الامتناع عن الأكل والشرب ونيل الجوع والعطش فقط دون أي ثواب أو فائدة تُرجى!.
وقد ورد عن سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ذلك المقصد حيث قالت [ما يصنع الصائم بصيامه اذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه]٦.
نسأل الله العلي القدير أن يبلغنا شهر رمضان شهر الرحمة ونحن له صائمين عابدين ويجعلنا له من الذاكرين ومن الذنوب والمعاصي معتصمين وله من التائبين المقبولة أعمالهم ويرزقنا العتق من لهيب جهنم برحمتك يارب العالمين.
اضافةتعليق
التعليقات