أخذت شمس الضحى تلذع رؤوس النخيل الباسقة المظلة بتحنان على أشجار (السمر) المبعثرة هنا وهناك.
بين اغصانها المتناثرة راحت العنكبوت تنسج بيتا بحبكات خفيفة وموزونة جيئة وذهابا، غير آبهة بالصحراء الممتدة الواسعة، حيث تلتقي الأرض بالسماء في نقطة مجهولة بعد اجتياز الإنحناءات الرملية، كخارطة هندسية أبدع معمارها في قياس انخفاضاتها تارة، وارتفاعاتها تارة أخرى.
كان الرسول (ص) قد انتهى تواً من غزوة (خيبر) البطولية التي قادها بنفسه مع صنوه ووزيره المولى (أمير المؤمنين) البطل المقدام، والفذ الهمام، الذي ما ترك مكرمة إلا وسجلها في هذه المعركة، بعد أن انهارت على يديه حصون (خيبر)، واستهزأ بقادتهم الذين ما استطالوا في العرب إلا بظلالهم الخاوية لما سطعت عليها نيران الوثنية والوحشية والحروب القبلية المتخلفة، فراح يشخبط من صفحات التاريخ بطولاتهم المزيفة.
تعالت أهازيج الفرح في هتافات المسلمين مهللين ومكبرين بعد أن عاد أمير المؤمنين منتصراً في برازه مع (مرحب).
بطل الجهل والخرافة
هلهل السرور في عيني الرسول (ص) بينما راحت مسحة الأمل تكلل محياه الملائكي، وهو يرفع وسام الحب الإلهي مزيناً به صدر الأمير (علي بن ابي طالب) عليه السلام بحديثه الذي تماوج في تلاطم الزمان معبراً بقوله: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله....).
بروح القائد الإنساني، قبل الرسول بعد الإنتصار في المعركة اقتراح اليهود بإبقاء الأراضي تحت تصرفهم على أن يعطوا نصف الموارد للمسلمين.
انتشر الخبر بين أصقاع شبه الجزيرة كانشطار ذري بلغ الآفاق.
كانت هناك قرية من قرى الحجاز تسمى (فدك)، تقع إلى جوار (خيبر) تبعد عن المدينة (145كم) يسكنها اليهود؛ جاؤوا مصالحين الرسول (ص) على أن يدرأ عنهم ويلات الحرب ويترك لهم أرضهم ومواردهم ليدفعوا له النصف فأصبحت ملك الرسول (ص) لأنها مما أفاء الله عليه ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب..
كانت قوافل الأفكار تتوافد في خواطر النبي (ص) عن ماهية الطريقة المثلى التي ينتفع ب(فدك) أكبر قدر من المسلمين، عنَ له أن يجعلها وقفاً لغايته السامية، لولا الوحي السمائي النازل على أطباق العدل والحكمة الرقراقة و(آت ذا القربى حقه).
غاص عليه السلام في دوامات البهت والحيرة، وكأنه يتقدم في اتجاه معاكس ليصل إلى المجهول.
لم يلبث في هذا الواقع كثيرا حتى غص الفضاء بهيبة مليك الوحي مرة أخرى. تنحنحت الكائنات وهي تطأطئ الرأس إجلالاً وإكباراً لهذا الحضور الأثيري والهمس الملائكي، انقشعت عن الرسول غمامة الحيرة، فها هو (جبرئيل) جاء ليأمره أن يأتي (فاطمة) سلام الله عليها حقها.
ضجت نبضاته الكريمة وتقاطرت لئالئ دموعه على وجناته المباركة، وهو لا يطيق الإنتظار ليخبر سيدة النساء بهذه المنحة والعطاء الرباني.
دخل عليها، كانت كعادتها رقيقة في هيبتها، مليحة في عنفوانها، لطيفة في جبروتها، تفترش سجادتها لتسمو فوق العلى، ما برحت تحلق في ملكوتها وهي تغدق الرحمة غيثاً يعم الخليقة جمعاء.
قامت إجلالاً وإكباراً للنبي (ص).
بدا في بحر عينيه تلاطم غريب لم يخف عليها، توجهت نحوه تحييه وتقبل راحتيه لتبحر عميقاً في شاطئه الأمين.
قال لها بصوت يلامس شغاف القلب:
لقد خصك الله يا فاطمة بأرض (فدك)، إنه اختيار الرب وحقك المشروع من غنائم (خيبر)،
ورد قليل لكثير ما ضحت به أمك (خديجة) في إعلاء راية الإسلام.
فرحت كثيرا وابتهج كل شيء حولها لفرحتها، من جدائل حصيرتها التي حيكت بحرفية أنامل النساء، حتى لبنات الأحجار المتحاشدة بتواضع في جدرانها.
ابتسمت الأبواب وأخذت قربة الماء المرصوفة في جانب الغرفة تتقاطر عرقاً وقد أسكرتها نشوة الفرح.
سمع العصفور الذي كان يسترق السمع الخبر وطار محلقاً ليبشر الملكوت.
قبلت سيدة النساء هدية السماء.
وراح عمالها سلام الله عليها يحثون الخطى في العمل بهذه الأرض المباركة، حتى بلغت عائداتها حسب بعض الروايات ما بين 70 و 120 ألف سكة ذهبية.
فكانوا يأتون بالحصاد وقيمته إليها لتنفقها على الفقراء والمساكين.
إلا أن هذه الصفوة لم تدم كثيراً، إذ ثارت عجاجة بغيضة حركها (ابو بكر) بعد وفاة الرسول (ص) حيث استولى على (فدك) وطرد العاملين فيها وصادرها غصبا ًتحت حجج ودواع واهية أوردها ردا على (الزهراء) سلام الله عليها حين مطالبتها بحقها في خطبتها الفدكية الشهيرة التي ما تركت مهماً من أمر الرسالة إلا وتناولتها.
ظلت عيون مئات البيوت الفقيرة ترنو نحو الصديقة بانكسار وهي تنتظر حصتها كما عودتهم ولكن هيهات هيهات فقد ذهبت (فدك) وذهبت معها كل الآمال، لتخلف الحسرات تلو الحسرات.
لقد كان المرجو منها أن تشد أزر الإمامة وتشكل سنداً إقتصادياً يرمم الصدع ويلملم الشرخ عبر الأزمان، فقه المتآمرون نسيج الخطة السماوية فحالوا دون تحقيقها كدأبهم دوماً ودون انقطاع.
اضافةتعليق
التعليقات