في قصر الطغاة، كان خليفتهم يشدّ شعره غضبا، يعضّ أنامله غيضا، يعدّ على أصابعه: إنه إمامهم الحادي عشر، ومنه سيولد مهديّهم الذي سيهدم عروشنا ويزيل ملكنا، ذلك الثاني عشر لا ينبغي أن يولد، أيها الجند شدّدوا الحراسة على بيت العلوي، وأتوني بكل شاردة وواردة، ابعثوا القوابل لمراقبة نسائه؛ عسى أن تكون إحداهنّ ذات حمل فاظفر بوليدها !
وفي ليلة الميعاد، كان البدر الأشيب يتوارى تاركا الظلام يغشى الكون، و ما بين صمت الليل، وغفلة عيون العسس، كانت هناك قلوب تغمرها سكينة اليقين، ويعلو وجيبها شوقا وترقبا .
الإمام الحسن العسكري، يقضي ليلته ما بين تهجّد ودعاء، وسجدة وتلاوة، يرقب ظلام الليل بانتظار فجره الموعود .
وفي فِناء الدار كانت عمته السيدة حكيمة، تقضي وِردَ ليلها بعد أن حلّت عنده ضيفة بدعوة كريمة، لتتشرف بالحدث الأجلّ، وتكون شاهدة وراوية لأعظم ولادة في التاريخ!.
وفي الحجرة الأخرى كانت زهرة النرجس، السيدة مليكة، مزهوة باقترانها بسليل الأطياب بعد أن قطعت رحلتها الإعجازية على أجنحة الغيب من أرض الروم إلى بيت أذن الله أن يُرفع رغم أنوف الظالمين.
وما بين تلّقي السيدة حكيمة للبشارة بالوليد المنتظر، وخفاء الحمل، كانت تعيش مشاعر الدهشة والترّقب، تنقل الطرف ما بين السماء وبين أميرة البيت الهاشمي، تراها قريرة القلب تغطّ بنومها الهادئ، فلا ترى عليها أثرا، حتى أذن الله بظهور الحمل ساعة المخاض فكانت شبيهة أمّ موسى في معجزة خفاء الحمل؛ لأن نهج الطواغيت في البطش واحد رغم اختلاف الأيام والدهور .
وعند تنفس الفجر وثبت السيدة نرجس من نومها فزعة فقد أذن الله لحملها بالظهور؛ فتلقفتها أحضان السيدة حكيمة تشدّ من أزرها وتواسيها، ليأتي نداء الإمام من المحراب: يا عمة اِقْرَئِي سورة الدخان، وينساب الصوت الحاني يقطع صمت الليل: { إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةࣲ مُّبَـٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِینَ * فِیهَا یُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِیمٍ } .
وعندما أزفت اللحظة المهيبة ضُرب بين السيدتين الجليلتين حجاب ملكوتي، وغمرتهما حالة تشبه سِنة من نومٍ أو غفلة، وما هي إلا لحظات كأنها حلم عذب وإذا بالوليد الميمون بين أيديهما، ساجد لله يردد قوله تعالى: { وَنُرِیدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِینَ ٱسۡتُضۡعِفُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئمَّةࣰ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَ ٰرِثِینَ } .
فيا ليلة السناء، المعطّرة بأنفاس الملائكة، اسكبي من نداك على أرواحنا القاحلة، المحكومة أبدا بلوعة الحنين والانتظار؛ فلعلّها تورق ببشائر الالتحاق بالركب الميمون، وتحظى بشرف العبودية بين يدي قائمها المنتظر .
اضافةتعليق
التعليقات