كانت الشمس قد شرعت بلملمة شُعاعها متسلقة هضاب مكة بينما أخذ الليل ينزلق خفياً؛ يُلبس الخليقة أستار الحشمة والوقار.
استلقى والدي بطوله ممتداً على الأريكة الخشبية في حافة غرفة الجلوس، تحوم حول رأسه ذبابة ما انفكت تطنطن في أذنيه.
بينما أخذت رائحة الطعام الشهية القادمة من المطبخ تزكم الأنوف، كسيف يجرد الإنسان من كل الكمالات غفلة، بوصفة سحرية أبدعت أمي في إعدادها.
كسر صمت المكان، جدالُنا المتعالي أنا وأخي على جهاز التحكم؛ كل يريد متابعة برنامجه المفضل على التلفاز.
وفجأة حدث مالم يكن بالحسبان، جال في الأرجاء صوت كأنه قادم من غياهب الخواطر الحساسة، أخذ يتلو قوله تعالى: (قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) الأسراء / 81 .
هرولت دون اختيار وفتحت النافذة المطلة على الشارع ، كان الصوت مسموعاً وطافحاً بالألم، استيقظ والدي من نومه وقد ارفض جبينه عرقاً، لبث مدة لابداً في مكانه، بينما اتكأت أمي على الجدار الفاصل بين المطبخ وقاعة الجلوس تصيخ السمع وقد جحظت عيناها مذهولة وهي تمسك بالمِغرفة تضغط عليها بقوة.
ألقى أخي جهاز التحكم وهو يصغي بحذر.
إنتبهت إلى التلفاز، فغر المذيع فاه و قد وقف ضيوفه حيارى، يستمعون بفم مفتوح، يبحثون في كل النواحي وقد أصابهم البهت!.
كان القمر بدراً في السماء حين بدأت تُعرّفُ عن نفسك:
(ألا يا أهل العالم أنا الإمام القائم، أنا الإمام المنتقم).
دوّى صوتك شجياً يجوب الأزقّة والشوارع والأسواق والدواوين، لم نكن نصدق ما نرى، ترنّحت الكلمات بين شفاهنا ونحن نردد بهمس: السلام عليك يا بقية الله في أرضه!.
ارتفع صوتك الحاني من جديد يكسر آخر آمال الطواغيت: الله الله فينا لا تخذلونا وانصرونا ينصركم الله تعالى!.
كان أمراً لا يوصف، لم تعد الأجساد تحوينا من شدة الفرح.
خرّ أبي ساجداً أسفل سريره، بينما تقاطرت الدموع محتشدة في وجنات أمي.
أخذ قلبي ينبض بشدة حتى خلتني أسمع نبضاته المتسارعة، ركضنا أنا وأخي متجاوزين الردهة المؤدية نحو الباب الخارجي.
توهّجَت أنواعُ الطيب في المجامر النحاسية وسط الجامع المحاذي لحَيّنا، كانت روائحُها تضمخ الأعمدة والجدران منسابة بين الطرقات الملتوية.
إمتلأت الأزقة بالصخب والهياج، خرج الناس من بيوتهم كالنمل عندما يستبيح السيل مستعمرتها، إنشغل أحدُهم بضبط أزراره والآخر بشد حزامه وحاولت امرأة جرجرة عبائتها مهرولة ناحية مجهولة.
لحظت من بعيد عجوزاً يقودها رجل تُمسك عصا مكسورة اتكأت على ما بقي منها علّها توصلها للمقصد راحمة ضعفها ومسكنتها، بينما لاح طفل في الطرف الآخر من الطريق ارتدى حذاء والدته وهو يركض لاحقا بأبيه متعثراً لا يكاد يمشي خطوات حتى يهوى على الأرض مرة أخرى.
تدلّت أغصان الياسمين ناكسة رؤوسها ترحيباً بقدومه المبارك تبثّ شذاها في كل مكان.
وانشغل الناس يتباركون فيما بينهم مهنئين، تعلو وجوهَهم تباشيرُ الفرح والسرور.
شرع أبو مهند بائع الحلويات، يعدل كوفيته المتهاوية من على رأسه وهو يرفع صوته بالصلوات تباعاً، وقد أمسك بكلتا يديه صينية مملوءة بالحلوى، يوزّعها مبتهجاً، لا يكاد يُفرغها حتى يملؤها من جديد.
كانت مجموعةٌ من الناس قد تهافتت على الصبي بائع الزهور الواقف على جانب الطريق وقد أعياه التعب؛ تشتري منه الورود حزمة حزمة. حتى أتت على آخرها في لحظات.
تصاعدت أبواق السيارات، واختلطت بزغاريد النساء اللاتي كنّ يشيّعن كوكبة من الشباب وهم ينشدون: (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع).
تسمرت العيون مندهشة على الشاشة العملاقة في وسط الساحة، لترى أول تصوير يظهر عليها وهي تغطى هذا الحدث السماوي.
عندما ظهرت أولى التصاوير ضجّ الناس وهَوَوا متهافتين على شاشات التلفاز لثماً وتقبيلاً وتبركاً بطلعتك البهية.
كان أحدهم يقفز من شدة الفرح، والثاني يقسم بأنه رآك في الحي القريب مرات متكررة، والكثيرون انشغلوا بمسح دموعهم بأطراف أكمامهم خوف أن تحرمهم تلك القطراتُ رؤيتَك حتى الإشباع.
كان وجهه مهيباً، ساطعاً بسيماء العارفين، ناصع اللون، واضح الجبين، أبلج الحاجب، في خده الأيمن خال متلألئ يشبه قطعة هشة من الليل على صفحة من نور النهار، له سمت ما رأت العيون أقصد منه ولا أكثر حسناً وسكينة وحياءً.
في هذه الأيام كانت تتوالى علامات الظهور ‘لا تتوقف فيها قلوب الوالهين عن الغليان، ولكن لم يخطر ببالهم قط أن يروك بهذه السرعة.
تلألأت الكواكبُ في سماء المدينة وامتدّت إلى مالا نهاية كأنها ذرّات لا تُحصى من التبر وكانت السماء من الصفاء بحيث يخيل للناظر أنه قادر على حصر حدودها.
صدق جدّك رسول الله (ص) حينما سُئل عن موعد ظهورك فقال: مثلُه مثلُ الساعة التي لا يجلّيها لوقتها إلا هو ثقُلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة.
ليتك تصل قريباً..
اضافةتعليق
التعليقات