التحقيق الفائز بمسابقة بشرى حياة للتحقيق الصحفي
كانت زوجتي مذعورة لأن الجنين توقف عن الحركة، تذرعت بالصبر وتظاهرت بالشجاعة حتى الموعد الذي تقول به الطبيبة هل مازال الطفل حياً في جوف الرحم ام لا؟.
في ذلك المساء لصقت أذني في باب الغرفة، كنت استمع لضجيج مكبرة الصوت وهي تنتقل من مكان لآخر وكانت جوارحي هائمة بين الأصوات، بقيت واثباً عند باب صالة العمليات كنت اسمعهم يلغطون بأصوات مبهمة لم استطع أن أفسر مغزاها، جاءت إحدى الممرضات لتبلغني إن الوقوف هنا ممنوع، تراجعت مخذولاً ثم عدت لأقف عند الباب، حتى جاء أخيراً نبض القلب وعدت واعياً من جديد لأن نبض طفلي الذي مابرح خلف جدران الرحم قد أعاد النبض لقلبي، هرعت مسرعاً نحو الطبيبة لأسألها هل الجنين بحالة جيدة؟.
فقالت: "انظر له انه سليم البنية صحيح الجسم".
أطرقت برأسي وتوشح وجهي بالحزن وأخبرتها إن ولدي البكر ولد معاق، أدركت مغزى سؤالي إن كان طفلي الثاني مثل أخيه، فأجابتني بعدم قدرتها على تشخيص حالته الآن فما زال صغيراً، وربتت على كتفي لتهدئ من قلقي وبأنه سيكون بخير، ثم مضت في بهو المستشفى الذي غادرته بوجه كظيم خوفا من أن يلاقي طفلي الثاني مصير أخيه.
إنها بداية حكاية أبو غيث الذي تحدث لنا وهو يناهز الـ58 من عمره استرسل بحديثه قائلا: "كبر ولداي غيث وليث وأصبحوا رجالاً وهما معاقان بشلل الأطفال فحال عوقهم من تحقيق ابسط أحلامهم وهو الاقتران بزوجة تشاطرهما الحياة باختيارهما ليس بما يفرضوه عليهما وضعهما لأنهما معاقان، كانا يلوذان بالصمت دون أن يكون لهما الحق بالإدلاء برأيهما".
وأضاف: "كم تمنيت أن أهب لهما سعادة تنسيهما وجعهما حينما أرى احدهما جالساً لوحده يخفي رأسه بين ركبتيه باكياً على حاله متمنياً الموت، على ان لا ينظر احد له بازدراء او نظرة عطف وشفقة".
حلم يلامس السحاب
إن الزواج من أقدس الروابط الاجتماعية التي أقرتها الشرائع الدينية ودعت لها لأنها تنظم العلاقات بين الجنسين لبناء أسرة صالحة ينشأ منها جيل واع، إلا أننا نجد شريحة المعاقين ما زالوا يعتصرون الألم الخفي بسبب إعاقتهم سواء كانت هذه الإعاقة ولادية او حادثة، وتزداد معاناتهم أكثر حينما يعزمون الاقتران بزوجة لتأسيس أسرة فيصفعهم الرفض في الأغلب بسبب اعاقتهم سواء كان المعاق رجلاً ام امرأة، فيتحول مشروع الزواج الى حلم يلامس السحاب لصعوبة حالهم وظروفهم التي حكم القدر عليهم بها.
(بشرى حياة) تسلط الضوء على زواج المعاقين وما تتعرض له هذه الشريحة من ضغوط نفسية بسبب نظرة المجتمع لهم..
أحلام في المنفى
حدثتنا "مها" وهو اسم مستعار ورافق حديثها ذرات من الدمع: "تعرضت لحادث سيارة في طفولتي أفقدني ذراعي، كانت طفولتي قاسية فلم أكن استطع أن أغير ثياب دميتي أو ألعب بارتياح، أنهيت دراستي بأعجوبة، لن أتحدث عن المعاناة التي واجهتها في رحلة تعليمي ونظرات الشفقة التي لازمتني منذ المرحلة الابتدائية حتى التخرج".
انسكبت الدموع من عينيها الحانيتين حزناً وأردفت قائلة: "لم يتقدم أي شاب أو حتى مسن لخطبتي بسبب عوقي أو التشوه كما يسميه البعض، توقفت حياتي وانتقلت كل أحلامي إلى المنفى، وها أنا أناهز الأربعين دون أن أتزوج وتكون لي أسرة، وما يوجع قلبي أمنيتي فمنذ صغري وأنا أتمنى أن أصبح أماً ويبدو إني سأصطحب أمنيتي هذه إلى القبر".
كان القرار الذي لابد من اختياره أصعب شيء واجهته في حياتي، انطلقت هذه الجملة مع تنهدات من لسان الشاب محمد غازي33 سنة ثم تابع حديثه قائلاً: "كنت مخيراً بين نارين احداهما اشد لهيباً من الأخرى فلم ينتهي عذابي حينما تعرضت لحادث حرق قدماي أثناء مزاولتي لعملي فأنا صاحب ورشة تصليح كان عليّ ان اختار أما بترهما أو الموت البطيء ولأني مصاب بالسكري كان علاجهما صعباً فأصيبتا بالكنكري".
وبحزن عميق بدى على محياه قائلاً: "وقع اختياري على الأول وهو البتر، بعدها أصبحت حبيس الكرسي المتحرك وبرغم توفير عمل لنفسي يناسب شكلي الجديد وسكني الخاص إلا إني ألاقي رفضاً قاطعاً من أي امرأة أتقدم لخطبتها ليومي هذا".
رؤية شرعية
وعن هذا الموضوع حدثنا الشيخ نزار التميمي قائلاً: "تحتل قضية زواج المعاقين حيزاً مهماً في حياة الأشخاص ذوي الإعاقة وحقهم في الحياة الكريمة التي كفلتها لهم معظم التشريعات والقوانين المعمول بها في البلدان المختلفة، والحق في تكوين أسرة وإنجاب الأطفال هي من جملة هذه الحقوق، وهي من القضايا المهمة التي فرضت نفسها في أجندة عمل المهتمين بهذه الفئة من أفراد المجتمع في الآونة الأخيرة مع تطور الوعي بأهمية تحسين نوعية الحياة لهذه الفئة من أفراد المجتمع".
وأشار التميمي إلى "ان الإعاقات أنواع ودرجات مختلفة، فهناك الإعاقة الجسدية أو الحركية، وهناك الإعاقة السمعية أو البصرية أو العقلية وأيضاً الإعاقة الكلامية، ويضاف إلى ذلك إعاقات أخرى مثل اضطراب التوحد والإعاقات المتعددة، ولأكون صريحا فإن الموقف الشرعي في الوقت الذي يراعي فيه الجوانب الإنسانية لذوي الإعاقات إلا انه يركز على بناء مجتمع متكافئ، وهنا تبرز قضايا كثيرة أهمها مفهوم الكفاءة في القدرات البدنية أو الحسية أو العقلية، وهناك تجارب ناجحة في هذا المجال تقابلها تجارب أخرى لم تنل حظها في النجاح وعدم النجاح، وهذا سببه عدم الاختيار الصحيح أو يكون على حساب الآخر الذي يكون هو الضحية كالأولاد مثلاً أو احد الشريكين إذا كان احدهما معاقاً والآخر لا".
وتابع: "لأهمية هذا الموضوع يرجى عزل الجوانب العاطفية عن هذه المشاريع المصيرية كالزواج عزلاً كاملاً حتى لا تتراكم الأخطاء والمشاكل، وعلينا ان نعمل بموضوعية ومسؤولية تجاه مشاريع الزواج نلاحظ فيها كل الآثار والنتائج قدر الإمكان".
آراء الشباب
فيما قال حسن علاء زيني طالب جامعي: "زواج المعاقين شيء مهم كعدالة ومساواة بين أقرانهم، ولأننا نمر بتقدم علمي فنلاحظ هناك الكثير من الوسائل التي تم توفيرها للمعاقين لتسهيل مهام حياتهم من كلا الجنسين".
وأضاف: "من الممكن ان اقترن بفتاة معاقة إذا توفرت بها شروط الذكاء والثقافة والأخلاق المناسبة، وأيضاً تعتمد على درجة الإعاقة لا يجب أن تكون درجة الإعاقة متقدمة كون الإنسان لديه احتياجات".
بينما الشاب مرتضى خضير الكرعاوي/ طالب جامعي شاركنا برأيه قائلاً: "أن شريحة المعاقين من أكثر الشرائح الاجتماعية المظلومة، كون اغلبهم لا يتمكنون من ممارسة حقهم الطبيعي في الارتباط بأنثى وتأسيس بيتاً زوجياً ويكونون أسرة".
وأضاف: "أنا عن نفسي أرى إن الزواج قرار مصيري تترتب عليه أمور كثيرة أهمها الأطفال والاقتران بفتاة معاقة تعد خطوة جريئة وتضحية كبيرة وكذلك للفتاة أيضاً".
وأستطرد قائلاً: "بالنسبة لي لا استطيع الزواج بفتاة معاقة لكن هناك فتيات أحياناً يقبلن بالاقتران برجل معاق".
وأشار إلى "إن قريبتي وافقت لأنها يتيمة الأبوين وقد كانت تقطن في بيت عمها فاختارت الزواج بمعاق أفضل من المكوث في بيت أقربائها".
من جانبها قالت حنين كريم/ بكالوريوس العلوم الطبية التطبيقية: "إن المشيئة الإلهية هي التي تحدد بأن يكون الإنسان الذي جاء إلى الدنيا ذكراً أو أنثى تام الخلقة أو غير تام، صحيحٌ أم عليل، وهي نفسها التي تُقلب الإنسان في دوامة الحياة وما يلاقيه، فمن كان ذا مالٍ أو جاه قد يفقدهم في أي لحظة، ومن أمسى وولده وعياله بين يديه قد يُصبح وهو مفجوع بفقدهم، ومن كان صحيح البدن قد يفقد صحته في ليلة وضحاها، وقد يتعرض إلى ما يؤدي إلى تشوه جزء من جسده أو فقده، أو ربما يُقدّر له ان يولد مع ذلك النقص أو العوق الجسدي، لكن هذا لا يعني انه فقد شيء من إنسانيته أو دينه أو مبادئه، كل ما في الأمر انه أصبح بحاجة أكثر من غيره للمساعدة وللمساندة".
وتابعت: "أنا شخصياً لا أُحب كلمة مُعاق وإنما ذوي احتياجات خاصة لأنه لو قلنا مُعاق فأن الإعاقة لا تقتصر على مستوى الجسد وحسب، وإنما الإعاقة تتضمن عوق التفكير والسلوك، وأنا أفضل العيش مع الشخص ذوي الاحتياجات الخاصة بتفكير سليم ودين قويم ومبادئ إنسانية، على الشخص السليم في بدنه ومعاق في عقله وتفكيره وسلوكه".
رؤية اجتماعية
فيما أوضحت الباحثة الاجتماعية حنين الحسناوي: "إن موضوع زواج المعاقين ولكلا الجنسين لا يمكن أن نجزم بصورة نهائية بأنه ذات تأثير ايجابي أو سلبي لأن هذا الموضوع تترتب عليه آثار جمة".
وأضافت: "هناك العديد من الإعاقات منها ولادية ومنها تعرض لحادث إلا إن أكثر الإعاقات قسوة فقدان نعمة العقل أو فقدان التوازن النفسي، كما إن زواج المعاقين يكون مردوده ايجابياً لأننا سنحافظ عليهم من الضياع والأزمات النفسية وبذلك سيشعرون باثبات الذات والامان لان هناك عائلة وزوجة تحتويهم وتعترف بهم ولكن هذا التأثير الايجابي قد يتحول إلى سلبي في حال إذا لم يقم المجتمع بتوفير مورد اقتصادي مستمر له ولعائلته وإن لم يتوفر له فنكون قد جنينا عليهم لأن نهاية المطاف الزوجة ستطلب الانفصال وقد يكون هناك أطفال سيضيعون ويسببون مشاكل لأنفسهم والمجتمع وإدخال المعاق بأزمات نفسية أعمق مما كان عليه قبل الزواج".
دائرة الاحتياجات الخاصة
وشاركتنا مسؤول دائرة الاحتياجات الخاصة ثورة مهدي الأموي قائلة:
"لقد تم إنشاء قسم تابع إلى دائرتنا للمعاقين يعود هذا القسم إلى هيئة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وهو يقوم بمنح المعاقين رواتباً شهرية وكذلك يقوم بمنح المعيل للمعوق راتباً شهرياً لإعالته للمعاق، والموظفين الذين لديهم معاق أيضاً يمنحون إجازة براتب لمدة سنة قابلة للتجديد".
وأضافت: "هنالك لجان خاصة نوفرها وذلك لزيارات المعاق لغرض التأكد من إن من يعيل يقوم بالمهمة فعلاً، أما دوائر الاحتياجات الخاصة فهي تقوم بالعناية بالمعاقين الذين هم في دوائرها ويتلقون كافة الدعم من الدائرة التي هي إحدى أقسام مديرية العمل والشؤون الاجتماعية والوحدات الفرعية منها معهد الرجاء التعليمي ودار الحنان لشديدي العوق وهذه دار إيوائية وهي الوحيدة بكل مدن العراق".
وتابعت: "فيما يخص المعاقين جراء الحروب أو الحوادث فلا يوجد أي مكان لتأهيلهم مع المجتمع، أو مساعدتهم على تخطي هذه الإعاقة، ومن ابرز المشاكل التي يعانون منها هو بناء أسرة واختيار الزوجة المناسبة التي تتقبل حالة الإعاقة عندهم، وهذا الموضوع يشكل إعاقة أخرى في حياتهم، فليس من السهولة إيجاد زوجة تقبل بزوج معاق وان وجدت فإما تكون كبيرة في العمر أو تفرض عليه شروطاً تعجيزية أو أمور أخرى".
واصلت الأموي: "وغالباً يشعر المعاق انه عالة على أسرته والمجتمع بشكل عام لذلك تكون نفسيته سيئة وحاد الطباع ومنطوي وأحياناً كثيرة يكون عدوانياً، لذلك على ذويه أن يعاملوه معاملة محايدة وليست خاصة لأن المعاملة الخاصة تشعره بالعجز وان الآخرين يعطفون عليه، وفي نفس الوقت مساعدته من وقت لآخر أو التدخل بالوقت المناسب وإدخاله في المجتمع، لذلك يجب أن يكون هنالك تواصل بينه وبين المجتمع وتأهيله لوضعه الجديد وعدم إشعاره بعجزه".
وناشدت قائلة: "على الحكومة ومنظمات المجتمع المدني مساندتهم بإيجاد فرص عمل حسب إعاقته وزجه بالمجتمع لإكمال دراسته وإعطائه الثقة بالنفس، ومساعدته في إيجاد الزوجة المناسبة وهذا أيضاً يحتاج إلى من يشرح وضعه للفتاة لتعرف طبيعة إعاقته وتقبلها كما هي والتعامل معه على أساس انه إنسان شاءت الظروف أن يكون هكذا لكي يكون له أسرة ويكمل مسيرته في الحياة".
اضافةتعليق
التعليقات