ها قد مر الشتاء السابع وانا اجلس قرب نافذة الدار الذي يقع قرب الساحل حيث كنت اسمع تلاطم الامواج كل صباح ومساء وفي كل يوم اجلس على مكتبي في حجرتي وامسك مقصا اعبث بالخارطة التي امامي فأقص الحدود ثم اعيد لصقها من جديد وفي كل مرة تأخذني الحيرة اين اضع العراق وسط تلك الخرائط وبعد رواح ومجيء وتفكير عميق اقتلعت العراق من تلك الحدود ووضعته في قلبي.
انا اخوض تجربة المنفى منذ سنين بعد ان غادرت وطني وتركت خلفي بيتا ونخلة واما عجوزا .
ام تمارة التي وضعت طفلتها في بلاد الغربة بعدما ارغمها زوجها عليها ليضعها في اختيار صعب اما ان تكون معه واما ان ينفصلان، ما كان أمامها سوى الامتثال لرغبته تقول أم تمارة: إني اشتاق لرائحة (خبز التمن والسمك المشوي) على الحطب الذي كانت تصنعه أمي في كل زيارة لنا أنا وإخوتي حينما تجمعنا أيام العطلة والتي تعدها خصيصا لي لأني أحبها حيث أجدها غارقة في غبار الحطب والدخان المتصاعد من فناء بيتنا او من على السطح حيث أراها عن بعد.
اشتاق لزقزقة العصافير فوق شجرة السدر قضيت سبعة سنين في منفاي الثلجي، كانت الحدائق تحيط بي والبحار تدور من حولي، لم يكن ثمة صوت يدل على دبيب الحياة، ماذا سأفعل في القادمات من الأيام وما الذي سوف اقوم به في تلك الوحشة وهذا السكون، وزوجي يرفض ان يعود الى الديار ويرفض ان اعمل ايضا لأشغل فراغي .
ختمت حديثها قائلة: اود ان اعود مهما كان الثمن فلا اخشى ان اعود الى البيت بلا يد او عين او قدم، ولا اعبأ ان رأيت كل يوم عشرات المشاهد المؤلمة التي تغتصب فرحة يومي وانا في بلدي وسط ناسي واهلي اشاركهم فرحهم وألمهم واقاسمهم حزنهم افضّل هذا بدل ان اعود الى منفاي بلا قلب كل مساء.
ام غادة احدى المغتربات في الدنمارك قالت: اغتربنا منذ اكثر من 30 عاما حتى ان اطفالي ولدوا هناك، وتعايشت مع الواقع الدنماركي حتى اصبحت منهم تماما وقد زوجت اولادي وتعديت كل المراحل الصعبة، حتى زوجي لم يعد للعراق ليطالب بحقوقه كونه من السجناء السياسيين سابقا.
وأضافت: إني لا أفكر في الرجوع وأنا سعيدة بحياتي هنا .
اما أم سلام وهي احدى المغتربات في أمريكا والتي كانت تسكن احدى المناطق الساخنة المتوترة امنيا في بغداد وفي ذلك الوقت عمل أولادها مع إحدى الشركات الأمريكية كمترجمين فأصبح من حقهم الهجرة الى امريكا فاختاروا الهجرة.
تقول أم سلام: في بداية الأمر رفضت رفضا قاطعا الرحيل عن بلدي والامتثال إلى رغبة زوجي وأولادي فقد كان يصعب عليّ تغيير حياتي ومكاني وقد تجاوزت الخمسين من عمري والحياة في أمريكا أصعب بكثير منها في أوربا، ولكن القدر القاسي لعب دوره عندما توفي ولدي الشاب بحادث سيارة مفجع في ولاية تكساس ولم استطع دفنه في العراق ودفنه أخوه الأكبر في أمريكا، حينها وافقت بسرعة على الهجرة لأعانق قبر ولدي الذي لم يتجاوز العشرين من عمره.
وتابعت بقولها: لكني أدركت إن مرارة الغربة وقسوتها لا تقل قساوة عن مرارة فقد ابني الأصغر، فالذل والهوان الذي قاسيته في سنوات اغترابي جعلني أفكر بالعودة إلى وطني وكل يوم أتضرع لله بأن يقبل زوجي ان نعود مهما كانت قسوة الحياة في العراق الحبيب.
بينما زينب صالح وهي مغتربة في السويد تعمل مترجمة في احدى روضات الأطفال التي تحتضن الأطفال اللاجئين، قالت: بعد زواجي بسنوات ازدادت الأوضاع سوءا في العراق المتمثلة بعدم الأمان والخوف من الإرهاب الذي طال العديد من أفراد عائلتي فاتفقت مع زوجي على الهجرة الى السويد وهاجرنا عام 2006 مصطحبة معي اولادي الاربعة، كانت هناك صعوبات للوصول إلى السويد فمكثت لمدة سنتين الى إن حصلت على الموافقة في الإقامة، ومن ثم بدأت الرحلة في التأقلم مع مجتمع آخر وقوانين ولغة جديدة وهذه أول مراحل معاناة غربتي.
وأضافت: قد حصلنا على الجنسية بعد خمسة أعوام، ولا أنكر بأن هناك حنين إلى الوطن واشتياق لإخوتي وأخواتي لكني وجدت الأمان والبلد الذي استطيع أن أعيش فيه مطمئنة لمستقبل أطفالي، رغم ما واجهته في عدم تقبل ارتدائي للحجاب من بعض الجهات المتطرفة التي تعادي الإسلام والمرأة المحجبة.
هذا وقد تعرضت لضغوط وكلام بذيء مثل (اخرجوا من ديارنا، اخرجي أيتها المحجبة، عودي من حيث أتيتِ) حتى ابنتي تعرضت الى الضرب أكثر من مرة وخلع حجابها وتمزيقه لكن بوجود قانون صارم ودولة حرة تضمن حق المرأة والطفل وتسلحهما بكل القوانين التي تقوم بحمايتهما استطعت أن أتجاوز تلك المرحلة رغم القسوة، ربما يكون ارحم بكثير من قسوة الإرهاب في العراق.
أنهت كلامها بأنها لا تفكر بالعودة إلى الديار إلا إذا عاد العراق لخيره وأمانه واستقراره واعتقد ان هذا شبه مستحيل لما يمر به البلد من نكبات.
رأي علم الاجتماع
الاستشارية الاجتماعية في مركز الإرشاد الأسري نور الحسناوي تقول:
هناك أمور في الحياة تتطلب من المرء أن يتخذ بها قرار على الرغم من الرغبة الداخلية وان كانت جامحة فعليه ان يكبحها ويخضع لما يتطلبه الواجب.
فواجب المرأة يتحتم عليها معاصرة الرجل اينما حل وارتحل وليس هذا فحسب بل ان تتسلح بكل ما أوتيت من قوة لاجل الحفاظ على علاقتها الزوجية من اي ثغرات ممكن تقود إلى إنهاء حياتها الزوجية بالفشل فكما نعرف هناك مغريات كثيرة في بلاد الغربة ممكن ان تشتت الاسرة وتجعلها عرضة للانهيار.
واضافت الحسناوي: انا شخصيا لا افضل الغربة لكنه واقع لربما يفرض على السيدة وتكون مضطرة لقبوله وإلا ستخسر زوجها او زواجها وسيكون الضحية الاطفال ان كان بينهم اطفال.
وتابعت الحسناوي: نجد بعض النساء تصارع في بلاد الغربة لاجل استمرارية الحياة وهذا امر طبيعي، الذي اشجع كل سيدة مغتربة ان تتقبله وتتأقلم في حياتها التي فرضتها الظروف، لكن اهم شيء هو ان تحاول ان تتشبث بالقيم والمبادئ التي تعلمتها في بلدها وليس هذا فحسب بل غرسها في نفوس اطفالها وتذكر زوجها بها بين حين واخر حتى لا تسمح لبيتها ان تتخلله عادات الغرب هذا ولأجل ان تبقى عالقة بذهنها نكهة اهل بلدها لتشعر انها مازالت تنتمي لهم، وتسعى جاهدة للتخالط مع العوائل العربية المغتربة لتتمكن من الاستمرار في بلاد الغربة.
ختمت حديثها متمنية ان يعود العراق الى استقراره ويعود كل المغتربين من نساء ورجال الى بلدهم.
اضافةتعليق
التعليقات