إن الحديث عن واقعة الطف وابعادها التاريخية يتجسد في ذكر مجموعة من الرجال الصناديد الذين خلدوا ملامح الطف في صفحات التاريخ حتى بقيت اسمائهم تلوح في افق الشهادة، حتى يومنا هذا، رجال لا تلهيهم عن نصرة الحسين تجارة او قتلا، غايتهم الدافع عن ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وعياله فقدموا الغالي والنفيس من اجل هذه الكرامة.
واول من خرج لنصرة الحسين من اهل بيته (عليهم السلام) هو مسلم ابن عقيل ابن طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الهاشمي القرشي وهو ابن عم الحسين بن علي، وقد أرسله إلى أهل الكوفة لأخذ البيعة منهم، وهو أوّل من استشهد من أصحاب الحسين بن علي في الكوفة، وقد عُرف فيما بعد بأنّه (سفير الحسين) وقد حظي بمكانه مرموقة ومتميزة في عصره.
زوجته: رقية بنت علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب في المدينة المنورة سنة (22 هـ) على أرجح الأقوال، كان مسلم بن عقيل محاربا فذًا اتصف بالقوة البدنية فتصفه بعض المصادر "وكان مثل الأسد"، وكان من قوته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت، ذاك فضلا عن كونه يشبه الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم).
مسلم ابن عقيل والإعلان عن قبول البيعة
"ولما علم أهل الكوفة بموت معاوية وامتناع الحسين (عليه السلام) من البيعة، اعتمدوا على يزيد وتم العقد فأرسلوا وفداً من قبلهم أبو عبدالله الجدلي وكتبوا إليه معهم فكان الاجتماع في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، ثم لبثوا يومين وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن شداد وعمارة بن عبد الله السلولي إلى الحسين (عليه السلام) ومعهم نحو مائة وخمسين صفحة من الرجل والاثنين والأربعة، وهو مع ذلك يتأنى ولا يجيبهم، فورد عليه في يوم واحد مائة كتاب، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده اثنا عشر ألف كتاب".
ثم لبثوا يومين آخرين وسرحوا إليه هاني بن هاني السبعي وسعيد بن عبد الله الحنفي وكانا آخر الرسل وكتبوا إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد، فحيّهلا، فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام).
رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة، ثم كتب مع هاني بن هاني وسعيد بن عبد الله، وكانا آخر الرسل بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين: أما بعدُ: فإنّ هانياً وسعيداً قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلِّكم: إنّه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى، وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وأمرته أن يكتب لي بحالكم وخبركم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم، وهو متوجه إليكم إن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله، فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم (أو: فإن كتب إليّ أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم) وقرأت في كتبكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولا تخذلوه، فإني أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام العامل (الحاكم) بالكتاب القائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، كالذي يحكم بغير الحق ولا يهتدي سبيلاً والسلام.
ثم طوى الكتاب، وختمه، ودعا بمسلم بن عقيل فدفع إليه الكتاب وقال: "إنّي موجهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي الله من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامضِ ببركة الله وعونه حتى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها، وادع الناس إلى طاعتي، فإن رأيتهم مجتمعين على بيعتي فعجّل عليّ بالخبر حتى أعمل على حساب ذلك إن شاء الله تعالى".
ثم عانقه الحسين عليه السلام وودّعه وبكيا جميعاً، ثم سرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي، وعمارة بن عبد الله السلولي، وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي، وأمره بالتقوى وكتمان أمره.
وصول مسلم ابن عقيل واستلام السفارة
عرف عن مسلم بن عقيل مناصرا لعمه الخليفة علي بن أبي طالب، فشارك في معركة موقعة صفين عام 37 هـ وجعله الخليفة علي على ميمنة الجيش مع الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر الطيار.
عندما وصل مسلم ابن عقيل استقبله الكوفيون بكثير من الحفاوة، وتلا مسلم عليهم كتاب الحسين فخنقتهم العبرات وتعالت نداء المناصرة للحسين، فتروي المصادر أن عدد المبايعيين في ذلك اليوم كان 18 ألف. فأرسل مسلم برسالة للحسين يطلب منه القدوم إلى الكوفة.
وصلت الاخبار إلى مسامع والي الكوفة الأموي وهو النعمان بن بشير فنصح الناس بترك الحسين على المنبر ومبايعة يزيد، وكان الناس متجمعين حول ابن عقيل، ضجر الأموميين من اهل الكوفة من الوالي واتهموه بالضعف والجبن، فأجابهم: "أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله" فقام بعض أهل الكوفة بإرسال رسالة إلى يزيد يخبرونه بمجريات الأمور وبما رأوه تقاعسًا لأميرهم من والي الكوفة، مع وصول هذه الكتب إلى يزيد، أشار سرجون (وهو أحد مستشاري يزيد وكان مساعدًا لمعاوية) إلى يزيد بعزل النعمان عن ولاية الكوفة وتأمير عبيد الله بن زياد عليها، لوسع حيلته وتدبيره وكان أميرًا على البصرة، فسارع يزيد بالأخذ بتنفيذ نصيحة سرجون وعين عبيد الله أميرا للكوفة وأمره بالتحرك إليها بسرعة قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة.
"ترك حكم البصرة واستلم أخاه عثمان بن زياد، ودخل إلى الكوفة متلثما متنكرا يرتدي عمامة سوداء ولا يكلم أحدا ويصحبه بضع من أصحابه، وكان أهل الكوفة ينتظرون الحسين فلما رأوا عبيد الله ظنوه الحسين واستقبلوه بالورود، فتحرك الموكب حتى وصل القصر عندها كشف عن هويته الحقيقية لحراس القصر فدخل دار الإمارة وعزل النعمان وما أن علم أهل الكوفة به حتى أصابتهم كآبة وحزن شديد".
الحسين يقرأ الرسائل
فعندها قام الحسين (عليه السلام) فتطهّر وصلّى ركعتين بين الركن والمقام، ثم انفتل من صلاته وسأل ربه الخير فيما كتب إليه أهل الكوفة، ثم جمع الرسل فقال لهم: "إني رأيتُ جدي رسول الله (صلى الله عليه وآلة وسلم) في منامي، وقد أمرني بأمر وأنا ماضٍ لأمره، فعزم الله لي بالخير، إنّه ولي ذلك والقادر عليه إن شاء الله تعالى".
ابن زياد واستلم المنصب
اول شيء قام به ابن زياد الخطبة بالناس محذرا إياهم من السقوط في "الفتنة" وحذر المبايعين للحسين بالقتل والسجن، ثم بعد ذلك بدأ بعملية بث الجنود لتجسس على مسلم ابن عقيل داخل المدينة للوصول اليه، فأرسل شخصا يدعى "معقل" ومعه ثلاثة آلاف درهم يحملها إلى مسلم بن عقيل ويتظاهر بأنه أجنبي جاء من خارج الكوفة، فاستطاع أن يصل إلى مسلم بن عقيل الذي كان موجودا في بيت هانئ بن عروة فأعطاه المال وغادر المكان متجها إلى ابن زياد ليبلغه بمحل اختباءه.
دخل الشك في قلب ابن عقيل فغادر بيت هانئ، وما هي إلا فترة قليلة وأصبحت الدار محاصرة بالشرطة الذين لم يجدوا في الدار إلا هانئ فاعتقلوه، استجوب عبيد الله هانئ بن عروة لمعرفة مكان مسلم بن عقيل إلا أن هانئ لم يفصح عن مكانه قائلا: "والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه، فأمر مسلم بن عقيل رجاله بالنهوض فنهض معه أربعة آلاف توجهوا جميعهم إلى القصر وحاصروه.
فأمر عبيد الله جنوده بإثارة الفتنة في الكوفة وإخبار الناس حول جيش كبير جرار قادم من الشام سيقتل كل من يقف ضد يزيد، ويبايع مسلم ابن عقيل، وقد اثار الخوف في نفوس اهل الكوفة، وبدأ الناس بالتفرق عن مسلم شيئا فشيئا.
بقي وحيدا في ازقة الكوفة لا يعرف اين يذهب واي باب سيطرق، بدا الحزن يظهر عليه، اقترب من احد البيوت فطرق الباب، صاحبة الدار تدعى "طوعة" فطلب منها الماء، عرفت طوعة انه غريب ولا مأوى له، استضافته في دارها وبقي ليلة عندها، لا تعرف ما تقدمه لتنال الاجر والثواب، كان لديها ولد من اتباع عبيد الله ابن زياد، بلغ ان في دارهم مسلم ابن عقيل، اسرع واخبر عنه لينال الجائزة الكبرى.
قبل أن يحاصر مسلم ابن عقيل خرج يقاتل الجنود حتى لم يقدروا عليه رغم كثرة عددهم، فعرض عليه محمد بن الأشعث الأمان مقابل أن يرمي سلاحه فقبل ابن عقيل ذلك، فادمعت عيناه عند اعتقاله فهون ابن الأشعث عليه فقال له: "إني والله ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفًا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي، أبكي لحسين وآل حسين".
قيدوه إلى قصر الإمارة حيث كان عبيد الله بن زياد الذي لم يكثرت للأمان الذي وُعِدَ به ابن عقيل فأمر بقتله ورموه من فوق القصر وكان ذلك في 9 من ذي الحجة 60هـ.
خرج مسلم بن عقيل عليه السلام من مكة في منتصف شهر رمضان سنة ستين للهجرة، ودخل الكوفة في اليوم الخامس من شهر شوّال من نفس السنة.
والظاهر أن الإمام كان يعلم بأن مهمة مسلم سوف تنتهي بشهادته، ولذلك أشعره بأن ختام أمره في هذا الطريق هو الفوز بدرجة الشهادة. وأوصاه: بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك.
"وسار حتى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التفّوا به لا يشكّون أنّه الحسين عليه السلام، فأغلق النعمان بن بشير الباب عليه وعلى خاصته، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب، فاطلع عليه النعمان وهو يظنه الحسين عليه السلام، فقال: يا ابن رسول الله مالي ولك؟ وما حملك على قصد بلدي من بين البلدان؟ أنشدك الله إلا ما تنحيت، والله ما أنا بمسلم إليك أمانتي، ومالي في قتالك من إرب!.
وهكذا مضى مسلم بن عقيل بعد حياة مليئة بالصبر والإخلاص لآل البيت (عليهم السلام)، وكان ذلك في اليوم الثامن/ ذي الحجة/ سنة 60 للهجرة.
المصادر: تاريخ النهضة الحسينية/ مثير الأحزان / بحار الأنوار/ مروج الذهب/ مناقب آل أبي طالب
اضافةتعليق
التعليقات