واقعة الطف ملحمة خالدة تحمل في طياتها دروسًا عميقة وقيمًا إنسانية نبيلة من صلب الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام). ليس من السهل استخلاص دروس عاشوراء فمهما بحث الإنسان وفكّر سيجد أنّ دروسَ عاشوراء هي أكثر بكثير ممّا يفكّر به، عاشوراء مدرسة ودروس لا عدّ لها ولا حصر، وكلّ درس فيه حياة وعلم ورشاد، ودروس عاشوراء خالدة مدى الدهر.
نستطرق اليوم درس من الدروس العظيمة التي قدمها الامام الحسين (عليه السلام) في واقعة عاشوراء وهو الترابط الأسري والقيم العائلية في أسمى معانيها. الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، قدّموا في هذه الواقعة دروسًا خالدة في الوفاء والتضحية، حيث تجلّت القيم الروحية والأخلاقية في علاقاتهم الأسرية.
عاشوراء أظهرت وحدة وتعاونًا عظيمين بين الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه. كانوا جسدًا واحدًا، يداً واحدة في مواجهة الظلم. تعاونهم وتكاتفهم يعكس أهمية الوحدة في مواجهة التحديات والمحن. قال تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: 103). هذا التكاتف والوحدة كانا من الأسباب الرئيسية لصمودهم في وجه جيش يزيد.
سنعرج في اسطرنا هذه حول ابرز شخصيات اسرة الامام الحسن (عليه السلام) التي رافقته في يوم عاشوراء وكل شخصية كانت تحمل دروساً عميقة في الترابط الاسري ولهذا سنختار ابرز القصص والعبر:
صاحب اللواء
عند الحديث عن واقعة كربلاء يكون العباس (عليه السلام) في مقدمة الموالين وعند التكلم عن وفاء الأخ لأخيه الا ويكون وفاء قمر بني هاشم لأخيه الامام الحسين (عليه السلام) في مقدمة الروايات الذي قدم أروع أمثلة الإخلاص والتفاني في خدمة أخيه وأهل بيته. كان يُلقب بـ "باب الحوائج" نظرًا لتفانيه في تلبية احتياجات الآخرين.
كان للعباس (عليه السلام) مواقف مشرفة في واقعة الطف فلم يبق مع الامام الحسين (عليه السلام) سواه، وعندما طلب الإذن بالقتال منه (عليه السلام) قال له الحسين: (أنت صاحب لوائي). إن الامام الحسين (عليه السلام) لازال ينظر الى معسكره كقوة ضاربة تستطيع أن تصد الأعداء وترد هجماتهم مادام لواؤه مرفوعاً بيد أخيه أبي الفضل (ع).
كان صراخ الاطفال من العطش يملأ مسامع الحسين (ع) فطلب من أخيه العباس (ع) احضار الماء لهم فاستجاب، واقتحم الفرات وشتت من كان عليه من الجند ونزل إلى الماء واغترف منه بيده ليشرب .. لكنه لم يشرب كانت صرخات الاطفال تتردد على مسامعه وصورة وجه أخيه لم تفارق ذهنه فرمى الماء من يده وقال:
يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني *** وبعده لا كنتِ أو تكوني
هذا حسيــــــــنٌ واردُ المنونِ *** وتشربيــــن باردَ المعينِ
ولما استشهد أبو الفضل العباس (ع) جلس عند رأسه أخيه الحسين (ع) وقال: (الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي) .... فهو بحق نعم الأخ لأخيه وأسطورة في التضحية والوفاء، ويبقى مثالاً يُحتذى به الأجيال المتعاقبة.
الدعم والتضحية
إن الكلام على الامام الحسين (عليه السلام) لا يكتمل إلا بذكر جبل الصبر زينب (سلام الله عليها)، فكان لها وقفة ثابتة وقوية بجانب أخيها الإمام الحسين (عليه السلام)، مما جعلها رمزًا للمرأة المسلمة القوية والمخلصة. كانت ركنًا أساسيًا في واقعة الطف، حيث جسّدت أسمى معاني القوة والصبر والدعم لأخيها. كانت تقف بجانبه في كل لحظة، تدعمه بكلماتها وتشجعه بصمودها.
بعد استشهاد الإمام الحسين، تولت عقيلة بني هاشم رعاية الأطفال والأسرى فهي ذلك الجبل الشامخ لم تهزه العواصف وفي الوقت نفسه كانت صابرة على الرغم من عظم المصاب، فالامام الحسين (عليه السلام) يقول (هوَّن بي ما نزل بي أنه بعين الله)وهي تقول ( اللهم تقبل منا هذا القربان)وتشير إلى جسد الامام الحسين (عليه السلام) وفي رواية أخرى (هذا القربان القليل)، لقد طبقت وصية الامام الحسين (عليه السلام) ( لا تشمتي بي الأعداء) فهي لم تشمت به الأعداء بل رفعت رأسه عاليا، واكملت مشوار الثورة بحيث لولاها لما عرفنا معنى كربلاء، فهي العلة المبقية لثورة سيد الشهداء (عليه السلام).
فالسيدة زينب بنت الامام علي (عليهما السلام) هي تلك المرأة الكاملة والقدوة البارزة في الإتباع في جميع شؤون الحياة خاصة الاقتداء بتلك الصفة اللامعة في حياتها وهي صبرها واستقامتها والحنان التي كانت تحمله لأخوتها والإخلاص للعائلة وكيفية الوقوف بجانب الأهل في أصعب الظروف.
فلذة كبده يفارقه
قد زخرت تلك الملحمة العظيمة بمواقف كثيرة، منها توديع الأب لابنه ليقتل، تلك اللحظة التي تهز كيان الأب في توديع فلذة كبده ويفارقه، بعد أن رآه شابا في مقتبل عمره، لكن آل البيت (عليهم السلام) آثروا أنفسهم وما يملكون في سبيل الله ونصرة دينه.
يظهر من ذلك ما حلّ بالإمام الحسين (عليه السلام) من الألم والحزن على ولده (علي الأكبر) حين قدمه للقتال ويعلم أنه مقتول لا محالة. تقدم علي الأكبر (عليه السلام) إلى القوم فقاتلهم قتالا شديدا وقتل كثيرا منهم، ثم رجع إلى الإمام الحسين (عليه السلام): “يا أبتِ العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماءٍ من سبيل؟" فقال له الحسين: "قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها”.
وهذا اللقاء هو الأخير بين الأب وابنه، ووعد الأب لابنه أن سيلقى جده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيسقيه شربة ماء لا يظمأ بعدها أبدا، ثم ودع أباه وعاد إلى المعركة ولم يعود.
هذه الواقعة تُعلمنا درسًا أسريًا عظيمًا في التضحية والوفاء، حيث يظهر أن الروابط الأسرية تتجاوز الحب والحنان لتشمل التضحية في سبيل المبادئ والقيم السامية. فالاحترام المتبادل بين الأبناء والآباء، والالتزام بالحق، يمكن أن يكون مصدر إلهام للأسر المعاصرة في مواجهة التحديات بروح من التضحية والوفاء.
الرباب: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
الرابط المقدس
كانت الرباب زوجة الحسين (ع)، نموذجًا للوفاء والإخلاص. بقيت معه في كل لحظة، تحمل معه الأعباء والأحزان. بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، فكان وفاؤها لزوجها أعظم وأرقى معنى للوفاء، بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من ثقل قيمي، تتحمّل مصائب كربلاء، من فقد الزوج والابن الرضيع، من حرق الخيام والفرار في صحراء كربلاء، من سبي على النياق الهزّل، الذلّة وضرب السياط، رؤية رأس الحسين (عليه السلام) وأصحابه على الأسنّة، مصائب الشام التي يصفها الإمام السجاد (عليه السلام) بأنّها أشدّ المصائب عليهم آنذاك لى غير ذلك من المصائب التي مرّت على أهل بيت الوحي والرسالة بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، والتي كانت الرباب حاضرة فيها، صابرة محتسبة، بل وأكثر من ذلك، مجسّدة لأروع صور الوفاء للزوج من بعد مماته. قال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" (الروم: 21)، وهذا ما تجسد في علاقة الإمام الحسين وزوجته الرباب.
ان هذه ثلة من النماذج التي قدمت في واقعة الطف تجسد أعلى درجات الترابط الأسري والإنساني. الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته قدموا مثالًا خالدًا للتضحية من أجل الحق والعدل. دعونا نستفيد من هذه الدروس الروحية العميقة ونسعى لتعزيز روابطنا الأسرية، لنعكس في حياتنا اليومية تلك القيم النبيلة التي جسدها الإمام الحسين وأهل بيته في واقعة الطف.
إن التضحية والوفاء، والاحترام المتبادل، والمحبة الخالصة، هي القيم التي يجب أن نتعلمها ونعيشها، لنكون أهلاً لتلك المدرسة العظيمة التي أرسى دعائمها الإمام الحسين في كربلاء.
اضافةتعليق
التعليقات