مما أوصانا به مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله". ١
فالإمام (عليه السلام) يدرك ميل الإنسان إلى الرفقة والكثرة من حوله، واستيحاشه من الوحدة، وقلّة الرفيق خصوصا عند سفره وترحاله، وتزداد الوحشة والخوف إذا كان السفر طويلا، والطريق غير مأنوس؛ فهو يعتقد إن السفر سيكون أكثر أمناً وسلامة لو كان هناك الكثير ممن يشاركونه المسير؛ لذا تأتي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لتربّت على قلوبنا وتطمئن أرواحنا، وتنبهنا بأن لا نستوحش طريق الهدى والحق لقلّة سالكيه، بل علينا أن نسير فيه بثقة ويقين، لاتزلّ أقدامنا، ولا يتزعزع يقيننا ؛ فأهل الحق بالرغم من قلّتهم إلا إنهم أولو الألباب، وأصحاب البصائر، يملكون الوعي، ويتسلّحون بالإرادة، فلا تتعثر خطاهم ولا يتسلّل الشك إلى بصائرهم، فهم دائما وأبدا - ورغم التحدٍيات كلها- واثقون من صحة اختيارهم، وسلامة مسيرهم .
وبالرغم مما يكتنف سبيل الحق من صعوبات فهو واضح المعالم، بيّن الدلائل لا لبس فيه ولا غموض، مشرق بنور الهداة الذين يأخذون بأيدي السالكين، ويتعهّدونهم بالرعاية والتسديد، ويكونون لهم أدلّاء في جميع المنعطفات لذا تنتهي الرحلة بسلام حتى آخر خطوة وآخر محطة .
من أولئك السالكين الذين أخلصوا الولاء لإمام الهدى والعروة الوثقى كميل بن زياد، حواري أمير المؤمنين، وصاحب سره ونجواه، أولاه أمير المؤمنين عناية خاصة إذ يكفيه فخرا أنه أنحله أنفس الأدعية وأسماها، ذلك الدعاء الذي سيظل اسم كميل مقترنا به إلى أبد الدهور والليالي والأيام .
ويكفيه عزّا إن أمير المؤمنين كان يضع يده بيده، ويخلو به خارج الكوفة حيث هما الاثنان لا ثالث لهما، يناجيه، ويفتح له كنوز هدايته ويسقيه من معينه الصافي حد الارتواء !
فهل لنا أن نتخيل استاذا أختزل لتلميذه تجربة حياتية كاملة تغني عن مئات الكتب في درس واحد؟ ورسم له معالم الطريق بكل منعطفاته الخطرة، والتواءاته الشائكة في مجلس واحد؟
هذا مافعله أمير المؤمنين مع كميل عندما خرج معه في ليلة من الليالي، إلى صحراء الكوفة بعيدا عن أعين الناس، وفتح له خزانة علمه المملوءة بالنفائس، بعد أن تنفّس الصعداء تحسّرا على قلّة المؤهلين لحمل هذا العلم الرباني؛ فالقلوب أوعية تختلف في قابلياتها، لكن قلب كميل وعاء صالح لحمل تلك الذخائر !.
في ذلك الدرس المعجز صنّف أمير المؤمنين الناس إلى ثلاثة أصناف لا رابع لهم، فهم أما عالم ربانيّ، أو متعلّم يسعى لينجوَ بنفسه من مزالق الفتن، أو جاهل يتبع كل صيحة، وينجرّ خلف كل صرعة مهما كان مصدرها، ليس له حصانة علمية تصونه من الوقوع في الشك والضلالات !
ولأن العلم أمضى سلاح يتسلّح به الإنسان في رحلة تكامله؛ فقد بيّن الإمام (عليه السلام) لكميل فضل العلم، وخصائصه ومزاياه، فالعلم يربو ويزيد بإيصاله إلى الآخرين، فهو كحبة الخير تنبت سنابل بركة لا حصر لها، وهو قادر على حراسة حامله من الشبهات والحيرة، ويعطيه قيمة معنوية ورفعة لاتقدّر بثمن، إضافة إلى رسوخه وثباته مقارنة بالمال الزائل .
وكما أن للمال حَمَلة يزولون بزواله، فإن للعلم حملة باقون ببقائه .
وحتى لا يغتّر طلّاب العلم بعلمهم، ولا ينخدع بهم الآخرون فقد صنّفهم أمير المؤمنين إلى أصناف تبيّن حقيقتهم، وتوضح مقاصدهم وأهدافهم، فمنهم اللَّقِن وهو الذكي النبيه الذي يفهم بسرعة، إلا إن العلم لا ينعكس على أخلاقه، ولا يكسبه الفضائل، فهو يستغلّ علمه لأهداف دنيوية تافهة أوغير مشروعة، ويستعين بنعم الله على إيذاء عباد الله وأوليائه، ومنهم المنقاد لحاملي الحق المقلد لهم في القول والعمل تقليدا أعمى بلا بصيرة ووعي؛ لذا يسرع الشك إلى قلبه لأقل شبهة؛ قطعا هذان الصنفان لا يصلحان لحمل العلم .
أما الغارقون في شهواتهم وملذّاتهم، أو المغرمون بكسب المال المولعون بجمعه واكتنازه، فهذان صنفان أشبه ما يكونان بالأنعام السائمة التي لا همّ لها سوى المرعى فهما ليسا ممن يصلح لحمل العلم أو رعايته .
فمع كل هذه الأصناف التي لا تمتلك الجدارة والأهلية فهل يبقى العلم خافيا في القلوب، ثم يموت بموت حامليه دون أن يجدون من يحمله بعدهم؟
بلى .. إن لذلك العلم الرباني طلبة مميزون لهم خصائص نادرة كندرة وجودهم؛ يصفهم أمير المؤمنين بأنهم الأقلون عددا والأعظمون قدرا، يحملون العلم الإلهي لينقلوه إلى نظرائهم، ويزرعوه في قلوب أشباههم .
إنهم أصحاب البصائر، والمستوى الراقي من اليقين، لا يستوحشون طريق الحق، ولا يأبهون لوعورته، يعيشون بين الناس لكن أرواحهم معلّقة بالملكوت الأعلى، أولئك الذين يتأوّه أمير المؤمنين شوقا إليهم .
إلى هنا ينتهي الدرس الخاص، ويؤذن للتلميذ النجيب بالانصراف، ذلك التلميذ الذي وعى ما قاله استاذه ومربّيه، وتلّقفه بشوق ورغبة، ثم أوصله إلينا بكل أمانة وجدارة .
وها نحن اليوم نقف على ضفاف غدير أمير المؤمنين، أسوة بكميل والنخبة من أصحابه وتلامذته، ننهل من معين ولائه، فتشرق أرواحنا، وتستنير بصيرتنا، وتتحدّد هويتنا؛ فنحن بحمد لله منتمون لعليّ مؤمنون بولايته، متمسكون بعروته الوثقى من عوالم الذر وحتى الملتقى عند حوض الكوثر..
اضافةتعليق
التعليقات