في الساعات الأخيرة من حياة نبينا (صلى الله عليه وآله)، وعندما بدأت ارهاصات الفتنة والانقلاب الكبير تطفو على سطح الأحداث، كان النبي قد غُشي عليه، وكانت السيدة الزهراء (عليها السلام) إلى جواره فبكت لحاله، فلما أفاق سمعها تقول: "من لنا بعدك يا رسول الله؟!" فقال: "أنتم المستضعفون بعدي والله" .
وفعلا بدأ مسلسل الاستضعاف لأهل البيت (عليهم السلام) منذ الساعات الأولى لرحيله، لقد نسيت الأمة أو تناست وصيّته بعترته، بل الوصية الإلهية على لسان القرآن الكريم {قُل لَّاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِی ٱلۡقُرۡبَىٰ}، فوقع على القربى من الظلم ما لم يقع على أحد من المسلمين، وهبّت الريح الهوجاء محاولة اقتلاعهم من جذورهم!
إن التأريخ لم يذكر لنا أن رجلا قد تعرّضت ذريته لحرب إبادة كما تعرّضت له ذرية النبيّ، ولو أنه (صلى الله عليه وآله) قد أوصى بقتلهم وتشريدهم وإبادتهم لما فعلت تلك الأمة الجاحدة أكثر ما فعلت، لقد سعت جهدها إلى إطفاء نورهم باستثناء الثلة القليلة التي وفت لرعاية الحق فيهم، {وَیَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّاۤ أَن یُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ} .
لو تصفحنا ولو النزر اليسير من حياة أئمتنا (عليهم السلام) لذهلنا من حجم الظلم الذي وقع عليهم، ومع إن حياتهم الشريفة كانت تنهى بالسم أو السيف، إلا إن إننا نجد إن كل إمام قد أحاطت بحياته تفاصيل من الظلم من طواغيت زمانه تختلف عن الآخر؛ فالحسين قُتل بتلك الصورة المفجعة وقُطع رأسه الشريف، وسُبِيَت حريمه، والإمام الكاظم (عليه السلام) قضى ما يقارب ثلث سنوات عمره الشريف في سجن هارون العباسي، والإمام الرضا (عليه السلام) نُفي - بخطة شيطانية خبيثة- من مدينة جده إلى أبعد بقعة من بلاد المسلمين إنذاك، ثم قضى مسموما شهيدا غريبا، ولحقه مغدورا بالسم نجله الجواد (عليه السلام) وهو في ريعان شبابه، انتهاءً بإمامنا الغائب الطريد المستور عن أعين الظالمين .
أما إمامنا الحسن (عليه السلام) فتفاصيل الظلم التي وقعت عليه غريبة ومحيّرة؛ فهو لم يُظلم من أعدائه فقط؛ بل ظُلم حتى من أقرب الناس إليه !
لقد خانه ابن عمه وقائد جيشه عبيد الله بن العباس، وتسلل تحت جنح الظلام والتحق بمعاوية؛ لينفتح بعد هذه الحادثة المخزية باب الخيانة؛ مما أدى إلى زعزعة أركان جيش الإمام، وانهيار معنويات الجند!
وعندما اضطرته الظروف والملابسات ليصالح معاوية ويوقع الوثيقة التي كانت ثمراتها المباركة لصالح الشيعة لم يفهم بعض أصحابه بعد نظر الإمام وحكمته من ذلك الصلح؛ فبعض تساءل متعجبا، والبعض تجاوز مرحلة الاستفسار إلى اللوم والعتاب، ولكنه عليه السلام- بحلمه وسعة صدره- استوعب تلك المواقف فأجاب، وأوضح، كقوله لأبي سعيد عندما سأله عن علّة مداهنته لمعاوية: "يا أبا سعيد إذا كنتُ إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفَّه رأيي فيما أتيتُه من مهادنة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً؛ ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل".
واستمر الأئمة (عليهم السلام) من بعده يوضّحون موقف الإمام لكل حيران ومتسائل كقول الإمام الباقر (عليه السلام) لسدير عندما أثار أمامه الإشكال نفسه: "اسكت! فإنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمراً عظيماً".
وقوله في مورد آخر: "والله لَلذي صنعه الحسن بن عليّ (عليهما السلام) كان خيراً لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس".
ومع هذا الايضاحات كلها فإلى الآن يتعرض الإمام الحسن (عليه السلام) إلى هجمات ظالمة من الجاهلين والمشكّكين!
وأعظم ظلم هو ذلك الذي وقع على إمامنا من داخل بيته، وفي إطار أوثق علاقة وهي العلاقة الزوجية، فالمفروض أن تكون الزوجة سكنا ولباسا لزوجها، تعينه في النائبات وتشد عضده عند الأزمات، لكن الإمام الحسن (عليه السلام) أبتُلي بتلك الأفعى الخبيثة التي كانت تتربص به، وتنتهز الفرصة للدغه بنابها المسموم .
جعدة بنت الأشعث ذات العنصر اللئيم والمنبت السيء، كانت أحد أوجه الظلم الذي وقع على إمامنا بل أعظمها وأمضاها؛ فقد تآمرت تلك اللعينة مع معاوية ألدّ أعداء الإمام الذي أغراها بالمال والوعود الكاذبة بتزويجها لولده يزيد أن هي وافقت على دسّ السم للإمام الحسن عليه السلام، فوضعت يدها بيد الشيطان وعقدت- بحماقتها وخبثها- تلك الصفقة الخاسرة، واستبدلت الذي هو أدني بالذي هو خير، وباعت بالثمن الزهيد ريحانة الرسول، وسيد شباب أهل الجنة فكانت خاتمتها الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .
ولم تتوقف متوالية الظلم على إمامنا الحسن (عليه السلام) فها هي يد النصب والعداء للذرية الطاهرة تطال قبره الشريف باعتدائها الأثيم السافر، وليبقى مرأى القبر المهدوم شوكة حزن تدمي قلوب شيعته حتى يحين موعد الثأر والقصاص!
في جملة عميقة معبّرة للكاتب المستشار عبد الحليم الجنديّ في وصفه لأهل الببت (عليهم السلام) في كتابه الإمام الصادق (عليه السلام): "كانت مصابيحُهم تتحطَّم لكنَّ شُعلتهم لا تنطفئ" .
نعم شعلتهم لا تُطفأ، وأنوارهم تبقى مشعّة تهدي العباد إلى الرشاد على مرّ الزمان، بينما يهلك أعداؤهم ويطوي التاريخ صفحتهم السوداء .
اضافةتعليق
التعليقات