لو سئل أي إنسان عاقل هل ترغب بالعودة إلى عالم الأرحام؟ بلا شك سيجيبك بكلا! لأن الانسان لما أتى للدنيا باكياً -وهذا أمر طبيعي- لكونه عالم جديد، ولشعوره بالغربة والوحشة منه، إلا إنه ما أن تحتضنه أمه ويسمع دقات قلبها، تلك الدقات التي كان يأنس ويطمئن بسماعها وهو في بطنها-كما أثبت ذلك علمياً- تراه سرعان ما يَسكن ويهدأ، ثم يتعايش مع العالم الجديد فيغدو عالمه الأجمل.
هكذا الإنسان الذي يعي أن الدنيا معبر، وأن العيش في هذا العالم الدنيوي ليس آخر العوالم فهو يترقب لذلك اليوم الذي سيأتي ليرحل منه، يخرج من رحم الدنيا إلى عالم جديد؛ نعم هو عالم مبهم ويخاف الاقدام له في بادئ الأمر لأنه مجهول، لكن المستعد لذلك العالم لن يطول خوفه ووحشته بل سرعان ما سيألفه ويرتاح فيه، فهو سيرجع لتحتضنه رحمة الرؤوف الرحيم الذي رحمة الأم قطرة في بحر رعايته ومظهر من مظاهر رحمته عز وجل، ولكونه عالم أوسع من عالم الدنيا، والحياة فيه حياة خلود-كما نعلم-فكما لم يبدي رغبته بالعودة لعالم الإرحام وظلماته الثلاث وهو في الدنيا، سوف لن يرغب للعودة لها وهي سجن المؤمن بعد انتقاله للأخرى.
وهذه ما يوجب على كل مؤمن بالغيب أن لا يبتأس برحيل الراحلين او حتى بترقب رحيله هو، ونحن نعيش في وطن شبح الموت يطارد كل فرد منا، بشكل واضح للعيان- مع إنه كذلك على كل حال- حيث بتنا لا يمر يوم إلا ونفقد زهور بعمر الورد تتساقط ظلماً وعدوان، ولكن علينا أن لا ننسى أن الموت سنة ألهية وهي جارية، سواء بأسبابها الطبيعية أم بفعل فاعل.
فلو تأملنا لرأينا أن الذي يغادروننا ويقتلون ويرحلون هم في مكان فيه مئات الأشخاص، تُرى لم هم دون غيرهم من يرحل؟ الجواب جداً بسيط لأن لكل انسان يوم ينتهي فيه إختباره في هذه الحياة الدنيا، لينتقل للحياة الأخرى الأبدية، لكل منا رسالته، منا من يبقى في الدنيا طويلاً ليتمها، ومنا من رحيله هو رسالته التي تبقى بعده ليقرأها الذين لازالوا في عالم الدنيا، فهذه الحقيقة لابد من إستحضارها في وجداننا لكي لا نرى ما نراه من إظهار السخط وكره فكرة الموت على أثر ذلك.
فإن الشعور بالجزع لفقد الأحبة- قلنا الجزع وليس البكاء والتألم فهو شعور إنساني طبيعي- وخاصة أولئك الذين يرحلون عنا ظلماً وعدواناً، الذين يستشهدون من أجل إحقاق الحق، لهو شعور[الجزع] مذموم! وإظهار الإعتراض يكشف عن نقص في إيمان نفس ذلك الجازع لأنه يعترض بذلك على سنة من السنن الإلهية القائمة في هذه الحياة ألا وهي أن الدنيا دار صراع مستمر بين الحق والباطل، ولابد من وجود تضحيات وبذل الأنفس ليبقى الحق، وتبقى مبادئه.
وهذا مبدأ يرسم ملامحه إمامنا السجاد (عليه السلام) لما قال لطاغية زمانها: "أبالقتل تهددني يا ابن زياد أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"(١)، فأن إمامنا يعلمنا أن أتباع الحق يعلمون أن القتل وبذل النفس هو أمر إعتيادي ومسلم به وليس دخيلاً على الذوات الناصرة للحق، لذا هم لا يتركون الحق لأنه طريق ذات شوكة، ولا يجزعون بالفقد لأنهم أصحاب كرامة.
لذا تبقى رسالة الموت وكل من نراهم يرحلون عنا أن أستعدوا فالسفر قريب، مهما ظننتم إنه بعيد أو لغيركم، وإن إتباع الحق ثمنه أن تكون من أهل الإستعداد للتضحية والبذل سواء بنفسك أو أي نفس تعز عليك..
اضافةتعليق
التعليقات