لطالما كانت الايجابية لها دور كبير في شحذ الهمم وتعزيز الدافع الذاتي للرغبة في العطاء والإجادة، ولكنها في بعض اللحظات تكون هي النقطة التي تجعل أحدهم يشمئز من نفسه فيتصلب أمام التساؤل الخطأ في الجسد المتعطش لجلد الذات: هل أنا المخطئ؟
هو سؤال راود الكثير منا، الذين تعلموا العطاء بلا حدود حتى بهتت ملامحهم عند أول ناكر لجميلهم فكانت كل الحشرات التي تلته تنهش من أجساد الطيبين فتغير لونهم ليتجمع كل شيء في النهاية فينفجر الطيب ويتحول لهالة سوداء لا رادع لها، ورغم أن التسامح من الأخلاق الحميدة ولكن الحقيقة التي يتجاهلها الأغلب أنه ليس كل فعل يجب أن نتسامح معه فبعض المخطئين يترجمون اطار التسامح إلى عدة أوجه، فيراها قليل الأصل ضعفاً والمتمرد قبولاً والغالبية من الجهلة يرون أن تسامح المجتمع بأنه غير مستعد للمواجهة.
وهكذا انطلقت معاناة شريحة كبيرة من المجتمع تقف وراء الستار فتنظر إلى جوانب المنصة منتظرة من مصمم المسرحية أن يوقفها دون أي اعتراض منهم في ظل كتمان الشعور في بادئ الأمر ثم اعتادوا فتكررت المشاهد يومياً ولم يعد هناك حتى أضعف الإيمان يعتريهم وهو الرفض القلبي ، ليصبح العالم مليء بالغضب أينما نظرنا نرى القيم تتصادم وتتلاشى ولا نعلم من قام باغتيالها، فاصبح القاتل وزيراً والفاسقة مثالاً وعلى الجانب الآخر في زاوية الممر وقف الشرف والعفاف ينظرون، وتلك المشاهد تزيد من قساوة الانسان حتى يجد نفسه في النهاية لاشيء يذكر وما هو إلا نسخة مكررة عن أشخاص كسروا قيم داخله، وحطموا شعورا جميلا كان يحفظه.
ما لا ينبغي من العفو
من المؤكد أن صفة العفو، والصفح، وترك الإنتقام عند القدرة، من أبرز الصفات الأخلاقية السامية، وإن المجتمع الذي يتعامل أفراده بهذه الصفات يتميز باستمرار التفاهم والحب والعطاء ، أما الأفراد الذين يحملون الإنتقام والثأر ، والضغينة ، في قلوبهم لا يغفرون أي إساءة ، أو زلة وإنما يرتقبون الفرصة ، حتى يفرغون أحقادهم ، ويثأرون لأنفسهم يقتاتون على اضطراب نفسي فتجدهم كلما قدمت إليهم قطعة خبز أكلوها ثم بصقوا عليك وأمروك بإحضار أخرى فتجد أن عطاءك زادهم سوءاً.
وهنا تدرك أن العفو والصفح لا يشمل الجميع، وأن هناك استثناء لأن في ذلك فساد المجتمع وقوة للظالم، ودوما ما يلجأ الإنسان في لحظات الضياع إلى يد تنتشله وتارة إلى كلمات قالها خير عباد الله فتمسك به لتنقله لليقين كتلك الكلمات التي قالها الإمام علي (عليه السلام) : «العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم»، وهنا يتبين لنا أن الإنسان حين يعفو عن شخص مذنب كريم ويصفح عنه يحظى بحبه لأن عفوه ممزوج بالكرم والتواضع، لكن العفو عن اللئيم والوضيع مدعاة للإفساد لأنه مقرون بالمنّ والأذى وهكذا كان توضيح أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله :«الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لوطف».
والواقع هنا معيار للحقيقية ، فكم قاتل تم العفو عنه فأصبح طاغية وكم فاسدة تم العفو عنها أنشأت شبكة من الفساد وضمت إليها أعداداً من الجهلة، وكم مسيء إلينا تداركناه في العفو فقطع يدنا التي قدمت الرغيف مناصفة إياه ولكنه شعر أنه يستحق هذا الرغيف بالكامل لأن شعوره المستبد طغى ورفض صفات الكريم فهي لا تناسب لئيم مثله فترك نُدبة تنهش أجسادنا كلما ذهبنا إلى النوم هاجمتنا كجاثوم يقطع النفس، ويعصر القلب، ويؤذي الروح .
هكذا هي ببساطة صورة اللئيم إذا تم العفو عنه كان ندبة تلازمك طوال حياتك، ولكن لا تدع هذا الحديث يجعل منك شخصاً متصلبا فلا تفرق بين المستحق للعفو وعدمه واتبع قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أفضل رداء تردى به الحلم وإن لم تكن حليما فتحلم فإنه من تشبه بقوم أوشك أن يكون منهم»، وهكذا عليك الأخذ بالقولين فلا تكن صلباً فتكسر ولا ليناً فتعصر ولا تجعل في حياتك القرب لإناس أثقلت الأيام على قلبك فالحياة مد وجزر فاجعل من مدك سكونا وتسامحاً تزهر فيه أطراف جسدك ومن جزرك صفح وعفو لمن يستحق فيهدأ قلبك وتركن إلى الطمأنينة حواسك كلها .
اضافةتعليق
التعليقات