عقدت جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية أمسية رمضانية تحت عنوان (لكي لا تحزنوا) بحضور سماحة الشيخ مرتضى معاش، وذلك يوم 17 رمضان 1444 هـ الموافق 8 / 4/ 2023م في مقر الجمعية.
حيث تحدث في محاضرته عن مفهوم الحزن وأسباب نشوئه في قلب الإنسان وكيف يواجه أحزانه بالاستفادة من الآيات القرآنية وكلمات أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وابتدأ كلامه بالقول:
"إن الأفكار التي نمتلكها في حياتنا أو في إيماننا أو في قلوبنا، هي التي تصنعنا، فنحن عبارة عن تجسيد لهذه الأفكار، وهذه الأفكار هي التي تصنع مشاعرنا، أو المواقف، أو القرارات التي تصدر منّا، فنحن نتربّى منذ الصغر على أفكار معينة وأنماط معينة وقوالب فكرية خاصة، عندما نتلقى التوجيهات التربوية، وهذه الأفكار التي نتربّى عليها، هي التي تصنع شخصياتنا".
وأضاف "إن البرمجة الفكرية التي نحتاج لها دائما هي البرمجة الأساسية في عملية بناء الشخصية السويّة الصالحة، لذلك نحن نحتاج إلى أن نقرأ المفاهيم، والأفكار الواردة في حياتنا، حتى نستطيع أن نتحكم بحياتنا، وتكون لدينا قدرة وإدارة حكيمة لشخصياتنا، وقيادة حياتنا نحو المنطلق الصحيح، لذلك من المهم جدا أن نعرف الأفكار والمفاهيم التي تتحكم بنا، ومن هذه المفاهيم، مفهوم الحزن، فكيف نعرف ونفهم الحزن، وما هو معناه، وكيف نبرمج الحزن في حياتنا؟
مفهوم الحزن
الحزن هو شيء حتمي موجود عند الإنسان كالفرح، علما أن الفرح والحزن نقيضان، أو ضدّان أحدهما في مقابل الآخر، فكيف نتعامل مع مفهوم الحزن في حياتنا؟
الحزن الذي هو نقيض الفرح أو نقيض السرور، هو حالة من الغمّ والكآبة وهو ألم نفسي حيث يشعر الإنسان بالعجز وعدم القدرة على تمشية حياته أو إدارتها. وهذا الاكتئاب الموجود والمنتشر في العالم اليوم، هو نوع من أنواع الحزن الشديد الذي يشعر به الإنسان، وهذه المشاعر عادة ما تكون سلبية، والإنسان الذي يكون حزينا يكون هادئا جدا، ومنفعلا، وعاطفيا، وانطوائيا، منعزلا، ويشعر بعدم وجود فاعلية مع الحياة ومع الآخرين. ولا يشعر الإنسان بأنه يمتلك القدرة الذاتية على الحركة في حياته".
وبين علة ذلك الحزن بأن "الإنسان الذي لديه توقّعات مادية في حياته، وهي أساس وسبب ومحور الحزن، فارتباط الإنسان بهذه التوقعات يجعله بالنتيجة حزينا باستمرار، لأنه يتوقع بقاء هذه المكاسب المادية، ويتوقع الحصول على المزيد منها. فهذا الحزن الموجود في القلب والتعلق بالماديات، يجعل الإنسان يشعر بالحزن لفقدان أبسط الأشياء.
فالإنسان المدني المعاصر ويسميه البعض، الإنسان التكنولوجي أو الرقمي، وجيل الملينيوم وجيل زد وجيل ألفا، أصبح أكثر حزنا من الأجيال السابقة. ففي السابق لم تكن هذه التعقيدات الكثيرة، فالحياة كانت بسيطة وكان شعور الانسان بالحزن على الأشياء التي يخسرها أو يفقدها أقل بكثير.
وهكذا أصبحت الحياة مادية معقدة بشكل متصاعد مع نمو ثقافة الاستهلاك الشديدة عند الناس، وكلّما تتضخّم المادة عند الإنسان يتضخّم حزنه، وتتضاعف أحزانه، وعندما تتعقد الحياة المادية للإنسان، فأصبح الإنسان يتجنب التفاعلات الاجتماعية، والعلاقات مع العائلة والأقارب والجيران بدأت تقل وتضعف مع مرور الزمن".
وأشار إلى أن "كل شخص منا يوجد في داخله خوف وحزن، الخوف مما هو آت والحزن على ما فات. الخوف مما هو آتٍ، بمعنى هناك قلق مما قد يتعرّض له في المستقبل، فالإنسان لا يعرف ما الذي سيحدث له في الغد، والحزن لما فات، هو الذي يحدث نتيجة ما يفقده الإنسان، ويعبر عنه بالغمّ، فالذي يحمل الغم هو المغموم الذي فقد شيئا ويتحسّر على فقدانه، كأن يكون قد خسر أموالا.
(لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) الحديد 23. فالإنسان الذي يعيش الحالة المادية ومنغمس فيها، فهو يشعر بالخوف دائما، والقلق والحزن، على ما فاته، وإذا حصل على شيء ما فإنه يفرح به فرحا شديدا، وهذه من الحالات التي تجعل الإنسان متعلقا بالدنيا تعلّقا شديدا.
هذه الآية القرآنية التي ذكرناها أعلاه، تعطينا توضيحا عن ضرورة انقلاع الانسان لنفسه عن الدنيا، وأشيائها، حتى يستطيع أن يعيش مرتاحا، ويحصل على الفرح الحقيقي، والسرور الحقيقي، فانقلاع الحزن من الانسان وحصوله على السرور الحقيقي يتم له عندما لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه".
وأشار الشيخ مرتضى معاش إلى أهمية الاستفادة من رؤية الإمام علي (عليه السلام) في بناء البرمجة الفكرية خصوصا في شهر رمضان المبارك، للوصول إلى عملية إعادة إنتاج الذات، عبر تجديد الأفكار وتهذيب شخصياتنا وتزكية أنفسنا.
حيث يقول (عليه السلام): (الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: -لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ- وَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ)، ومعنى (فقد أخذ الزهد بطرفيه)؟ أن الإنسان الزاهد هو الرابح في الدنيا والآخرة، أي أنه يربح الدنيا ويربح الآخرة أيضا، بدليل ما روي عنه (عليه السلام): (وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ولَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ...). فالمتقون شاركوا أهل الدنيا بالانتفاعات وبالمتع وبالملذات وبالحياة المادية فربحوا الدنيا وربحوا الآخرة أيضا، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم وذهبوا إلى الجنة".
أسباب الحزن
وتطرق الشيخ معاش إلى أسباب الحزن ومنها: "التعلق بالماديات والابتعاد عن المعنويات، فكلما يزداد تعلق الإنسان بالماديات، تزداد تعاسته، وكلما ينفصل الإنسان عن الماديات، ويروض نفسه، ويبتعد عن التعلق بالماديات، تزداد سعادته ويشعر بالسرور، وعن الإمام علي (عليه السلام): (ثمرة المقتنيات الحزن)، فكلما تزداد ممتلكات الإنسان يزداد حزنه، لأنه يخشى عليها من الفقدان أو الضياع، فيشعر بالقلق من خسارته المحتمَلة لهذه الممتلكات.
ومن أسباب الحزن، الأفكار السوداوية التي تتشكك (ولو لا شعوريا) بالمقادير الإلهية، فالإنسان الذي يرفض القدر الإلهي سيفشل، لأنه عبارة عن امتحان للإنسان، وابتلاء له، الابتلاء فتنة حيث يمحَّص الإنسان من أجل بناء شخصيته وتطوير ذاته، فالابتلاء يحدث من أجل تقوية الإنسان، لذلك يتحول إلى نعمة وليس نقمة، البعض ينظرون إلى الابتلاء على إنه نقمة، فيشككون بالقدر الإلهي، لذلك فإن الإنسان الذي يشكك بالقدر الإلهي يصبح إنسانا ظلاميا، وأفكاره سوداوية بائسة.
فنرى هذا الإنسان كئيبا وحزينا دائما، لذلك لابد للإنسان أن يستسلم دائما للقدر الإلهي، ويرضى بأقدار الله سبحانه وتعالى. وعن الإمام علي (عليه السلام): (نعم الطارد للهم، الاتكال على القدر)، بأن لا يخاف الإنسان من القدر، فيستقبل القدر ويعتبره نوعا من تهذيب النفس وتنقية الذات.
ومن أسباب الحزن أيضا، الانغماس في المعاصي، والتهاون في ارتكاب الذنوب، فالإنسان المنغمس في المعاصي قد لا يشعر بالأثر الوضعي للمعصية عليه، ولكن مع كل معصية تصبح في قلبه نقطة سوداء، فإذا لم يعالج هذه النقطة السوداء ويزيلها من قلبه، سوف تزداد النقاط السوداء في هذا القلب. وعن الإمام علي (عليه السلام): (سرور المؤمن بطاعة ربّه، وحزنه على ذنبه)، فكلما أطاع الإنسان الله أكثر يصبح أكثر سرورا وأكثر فرحا، ويزداد حزنه بسبب ذنوبه أيضا.
ومن أسباب الحزن أيضا، التفكير بالذات والابتعاد عن المسؤولية الاجتماعية، وعدم وجود العطاء والإنفاق في سبيل الله، أو الإنفاق الاجتماعي، لذلك فإن الإنسان الأناني هو إنسان حزين، ويمكن أن تلاحظوا ذلك بوضوح، فحتى لو امتلك مليارات الدولارات يبقى حزينا، لأنه لا لذة مع عدم وجود الآخرين في حياته، فالآخرون هم السبب الأساس الذي يجعل حياتنا جميلة، فلا يتصور الإنسان أن وجوده فقط يكفيه، كلا لابد من وجود الآخرين في حياته.
فالمال عبء على الإنسان، لأن المال هو وسيلة، فعندما ينفق الإنسان المال في سبيل الله، فإنه يقضي حوائج المحتاجين، يقضي حوائج أقاربه وأرحامه، فهذا العمل يمنحه الفرح والسرور.
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة 274. فالإنفاق تزكية للذات عبر اقتلاع الحزن المادي منها".
طرق مواجهة الأحزان
وذكر الشيخ مرتضى معاش الطرق اللازمة لمواجهة الأحزان ومنها:
"الرضى بقضاء الله، فالتسليم لأمر الله تعالى يؤدي إلى تقليل الهموم، وكلما كان الإنسان راضيا ومسلّما أمره لله خفّت همومه وأحزانه، فيتخلص من نفسه ومن محوريّته ومن ذاته، ويذهب نحو الله تعالى، فهذا الإنسان تزول من قلبه ونفسه الهموم. وعن الإمام علي (عليه السلام): (من رضي بما قسم الله له لم يحزن على ما في يد غيره).
ومنها الاستثمار الذكي لأعمارِنا، فعنه (عليه السلام): (كيف يفرح بعمر تنقصه الساعات)، وكذلك (مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ)، فالرزق يمكن استرجاعه إذا خسره الإنسان، أما العمر فلا يمكن استرجاعه، فإذا خسر الإنسان عمره لا يمكن أن يستعيده مرة أخرى، فأيهما أفضل العمر أم الرزق؟، نحن نخسر أعمارنا من أجل أرزاقنا، لذلك نلاحظ أن أعمارنا بالنتيجة تذهب هدرا.
ومنها الاستثمار الذكي للأموال، عبر الإنفاق والعطاء، فعنه (عليه السلام): (إِنَّ أَخْسَرَ النَّاسِ صَفْقَةً وَأَخْيَبَهُمْ سَعْياً رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ مَالِهِ وَلَمْ تُسَاعِدْهُ الْمَقَادِيرُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا بِحَسْرَتِهِ وَقَدِمَ عَلَى الْآخِرَةِ بِتَبِعَتِهِ).
إنه لم يحصل شيئا من أمواله رغم التعب الكبير الذي بذله، قبل أيام توفيَ ملياردير في عمر 55 سنة، فما فائدة المليارات والأموال التي كان يمتلكها، فمن يمتلك الأموال لابد أن يستثمرها بشكل ذكي وفي العطاء والإنفاق، ولا يكون عبدا للأموال والأشياء.
ومنها تأطير الدنيا ولذّاتها والتحكم بها بالتعقّل، فعلى الإنسان أن يتحكم بالدنيا التي يعيش فيها، فالإنسان الذي يقود سيارة ولا يعرف قيادتها، فإن هذه السيارة سوف تقوده إلى الهاوية، إلى حادثة اصطدام ومن ثم إلى الموت، أما الإنسان الذي يتعلم ويتقن قيادة السيارة، فإنه حينئذ يستطيع أن يقودها بشكل جيد ولا يخشى الحوادث أو الأخطار، كذلك الدنيا، إنها تشبه السيارة، فعلى الإنسان أن يتحكم بها ويديرها بالتعقّل والحكمة ويسيطر على لذاتها، ولا تكون لذات الدنيا هي المسيطرة على الإنسان.
هناك بعض الناس تسيطر عليهم لذاتهم وشهواتهم، فيركضون وراءها ويصبحون عبيدا لها، ولا يحرصون على أنفسهم، لذلك يجب السيطرة عليها من خلال التعقل، ومن خلال ترسيخ اليقين، بأن هذه الدنيا فانية، وهذه اللذة فانية ولا قيمة لها، وأن الإنسان مخلوق وباقٍ لشيء أكبر وأعظم، وأن هذه المادة لا قيمة لها، هذا هو اليقين الذي يزيح عن المرتابين الشك بوجود الحساب والعقاب والثواب.
فكل إنسان عاقل سوف يعرف بأنه يسير في طريق طويل ممتد أمامه، ويجب أن يكون عنده يقين بهذا الطريق الطويل، فيتعقّل ويعقل دنياه ويسيطر عليها ويتحكم بها.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَقُبْحِ الزَّلَلِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ)، فعليكم بالعقل، فالذين وصلوا إلى السلطة وتربعوا على العروش في النهاية ماتوا جميعا، فالذين عارضوه (عليه السلام) وصارعوه وكانوا أعداء له، إلى أين وصلوا؟ وإلى أين ذهبوا؟ إنهم جميعا ماتوا وذهبوا.
هذا العقل الذي منحه الله سبحانه وتعالى لنا بمثابة نعمة كبيرة، فعندما ينام العقل تحدث المصائب، وتحل الكوارث بالإنسان، وأغلب حياتنا نعيشها ونحن في حالة سبات حيث عقولنا نائمة ولا نفكر بها".
وفي الختام أكد الشيخ مرتضى معاش على ضرورة أن "ننظر إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى أهل البيت (عليهم السلام) ونعرف أن هناك غايات أكبر وأعظم لأننا نحتاجها في البرمجة الجيدة لأفكارنا لكي نحصل على السعادة الحقيقية، السعادة الحقيقية في التعامل مع الأمور المادية، والسعادة الحقيقية في انتظار العواقب الحسنة والجيدة في حياتنا".
اضافةتعليق
التعليقات