في هذه السطور سوف لن أتحدث عن شجاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو صاحب السيف الذي أثنى عليه جبرئيل عندما هتف بين السماء والأرض: (لاسيف إلا ذو الفقار).
وهو الذي قتل صناديد العرب فأورث قلوبهم أحقادا لن تنقضي إلى يوم يُبعثون.
وهو صاحب الضربة التي عادلت عبادة الثقلين إلى يوم القيامة .
وسوف لن أتناول جانب البلاغة من شخصيته الفذة وهو أمير البلاغة، الذي أتحف اللغة بغرر الحكم، وجواهر الكلام، ولن أتكلم عن علمه وهو باب مدينة علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي أعلن على الملأ بكل اقتدار: (سلوني قبل أن تفقدوني)، واثقا أنه لن يعجزه سؤال ولن يحرجه سائل.
ولن أشير إلى عدله وهو العادل في الرعية والقاسم بالسوية .
سوف أتكلم حصريا عن علاقته الاستثنائية مع خلّص أصحابه وحواريه الذين أحبوه بكل اخلاص، وبادلهم حبا بحب، يستهويني أن أتحدث عن سلمان، وعمار، ومالك الأشتر، عن ميثم، والأصبغ بن نباته، وحجر بن عدي، تلك الثلّة من الرجال ذوي الحظوظ العظيمة الذين أحسنوا اختيار الطريق والصاحب، وأنعم الله عليهم بمرافقة سيد الخلق بعد رسول الله والسير على نهجه، وإن كانوا قد دفعوا ضريبة تلك النعمة بأن أحاط بهم البلاء ومحِّصوا تمحيصا.
فهذا عمار قد أوصاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بملازمة عليّ، وعدم مفارقته: (يا عمار إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس كلهم وادياً فاسلك مع علي فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى)، فحفظ الوصية، ووقف بوجه الانقلاب القريشي ضد الخليفة الشرعي، ولاقى ما لاقى من الأذى، ثم شارك الإمام عليّ في حربه ضد الناكثين، وفي صفين أبلى البلاء الحسن رغم كبر سنه.
تقول الرويات إنه في صفين استأذن الإمام بالبراز أكثر من مرة قائلا: (يا أخا رسول الله أتأذن لي في القتال؟)، والإمام يردّ عليه: (مهلا رحمك الله)؛ لم يأذن له حرصا عليه وخوفا على حياته.
ألحّ عمار في طلب الإذن؛ فقد بدت لبصيرته النافذة علامات يوم استشهاده كما وصفه له رسول الله، وكان مشهد وداعهما موثرا جدا؛ حيث ترجّل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن بغلته، عانق عمارا وودّعه وداع المفارق، وأثنى عليه قائلا: (يا أبا اليقظان جزاك الله عن نبيك وعن الاسلام خيرا، فنعم الأخ كنت، ونعم الصاحب كنت)، ثم بكى عليه السلام وبكى عمار .
قاتل عمار قتال المستميت دفاعا عمّن أحبّه ووالاه، الواثق من سلامة النهج، وحسن الخاتمة، وهو ينادي صاحبه هاشم بن عتبة: (يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه) .
وتشهد له ساحة الوغى في صفين، وتردد أصداء ارجوزته:
ربِّ عجِّلْ شهادةً ليَ بقتلٍ
فـي الذي أحبّ قتلاً جميلا
بقي الإمام عليّ (عليه السلام) قلقا على صاحبه، يسأل عنه ويتحرّى أخباره رغم حراجة الموقف، وشراسة المعركة.
وعندما حلّ المساء طاف أمير المؤمنين (عليه السلام) على القتلى فوجد عمارا ملقى بينهم، فجعل رأسه على فخذه
متفجعا باكيا، قد اعتصر الألم فؤاده، تمنّى الموت ليلحق بأصحابه وأنشد:
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي
أرحني فقد أفنيتَ كلَّ خليلِ
أراكَ بـصـيـراً بـالـذيـنَ أحـبـهـم
كـأنّـكَ تـنـحو نحوهمْ بدليلِ
وأخذ يتغزّل بوجه الشهيد المعفّر وهو يمسح عنه الدم والتراب وينشد:
وما ظبية تسبي القلوبَ بطرفها
إذا التفتتْ خِلنا بأجفانِها سحرا
بأحسن منه كلّل السيفُ وجهَه
دماً في سبيل الله حتى قضى صبرا
ثم صلٍى عليه، ودفنه بيده الشريفة، وأبّنه بما هو أهله من الكلام:
( إنا لله وإنا إليه راجعون إن امرءاً لم تدخل عليه مصيبة في قتل عمار فما هو من الإسلام في شيء ) .
ولا زال سهل صفين يحتفظ بضريح الشهيد السعيد، يزوره الموالون ويستلهمون منه معاني الولاء والحب الصادق .
وما تفجّع أمير المؤمنين حين بلغه استشهاد صاحبه مالك الأشتر بأقل من تفجعه على عمار، فقد نعاه بقوله:
(رحم الله مالكا، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله).
ونقل بعض الرجال من النخع إن الإمام عليُ لما جاءه نعي الأشتر صار يتلهف ويتأسف عليه، ويقول: (لله در مالك! وما مالك! لو كان جبلا لكان فندا، (الفند يعني المتفرّد)، ولو كان حجرا لكان صلدا ... على مثل مالك فلتبك البواكي، وهل موجود كمالك؟) .
وبكى عليه أياما، وحزن عليه حزنا شديدا وقال: (لا أرى مثله بعده أبدا).
ومما قاله عند نعيه: (اللهم إني أحتسبه عندك، فإن موته من مصائب الدهر...).
ورغم إعلان الإمام عليُ (عليه السلام) بأن الحق ما ترك له من صاحب، إلا إن ثلة من رجال الحق المخلصين أحاطوا به وفدوه بأنفسهم ودمائهم الزكية، فكانوا جديرين حقا بهذا الانتساب المشرّف، ولو أردنا أن نقف على سيرة كل واحد منهم لطال بنا المقام؛ إلا إن هذين نموذجين يعكسان العلاقة الاستثنائية بين الإمام وحواريه الذين أخلصوا له الودّ والولاء، صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما يبدّلوا تبديلا.
اضافةتعليق
التعليقات