دارت رحى الأمس والمشهد أعاد نفسه، الجلاد واحد وسجن الماضي المتغطرس العاتي هو ذاته مخزن اليوم الفاتك بحلته الموحشة الذي لو اودع فيه قهر مرحلة ولظى حقبة لو فرشت على الأسفار لما وسعت تفاصيلها، محاط بأسوار فرضت قسرا تركت بعدها أطلالٍ تحولت إلى ملاذ لكل فؤاد مريض..
بينما تدور العدسة لتبحث بين حواري المدينة حيث تتدحرج كل السحنات الشاحبة والنظرات التائهة وأبدان قوسها الزمان وعيون الشباب الفارة من واقعها لتلجأ إلى روحانية تكاد تملئأ الأبدان بعظمتها، وأرواح تبحث في فيض هذه القداسة وهي تترجى أن تكون مع مَن طهرهم الله من الرجس تطهيراً في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
فالحديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لا يمكن أن تترجمه كلمات لكن من باب التوسل علنا نغترف من بعض منهله نوراً ونمسد فيه أرواحنا المنهكة بلهاثها من قبر الدنيا باحثين عن نسمات الآخرة التي مَنّ الله علينا بأن ترك لنا نفحات سماوية على أرض أنهكها الزمان وتوالت عليها المصائب فما وجدنا إلا حبل الوصال هذا توسلا به وصلة لرحم الآخرة.
وبما أن الإمام في عقيدة الشيعة هو وعاء الوحي والرسالة، وله علامات وميزات خاصة فقد فرض الإمام الكاظم (عليه السلام) نفسه على الواقع الشيعي، وترسخت إمامته في نفوسهم بأجمل صورها ومعانيها فكان أعبد أهل زمانه، وأزهدهم في الدنيا، وأفقههم وأعلمهم، حيث إنه دائم التوجه لله حتى في أحرج الأوقات التي قضاها في سجون العباسيين لتصدر كلماته:
((اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، وقد فعلتَ، فلك الحمد)).
هكذا كان السجن بلسانه هو مكان لعبادة الله حتى امتدت مدة السجن فترات طويلة، لأن الدولة العباسية أخذت منهج تقتيل وتشريد المسلمين خصوصا شيعة أهل البيت كسياسة قمعية يقتلون في كل مكان دون رحمة أو انسانية، كأنهم السم الزعاف الذي توارى خلف جدران الحيلة يبحث عن شريان الأمة ليسد مساره فيقضي على مايثير الحق ليسلم عرش الطغاة من الخوف الذي كان يدور في صدورهم قبل أن يدخل دورهم، ولكن الإمام بالرغم من التضييق عمل على رسم منهج لحياة يملأها البناء لمستقبل عادل فقد كان يخلق الحدث لا ان يكون نتيجة له، فعندما وقف الرشيد عند قبر النبي صلى الله عليه وآله مسلما عليه بكونه ابن عمه ليوحي للناس أنه يحكم بإسم محمد ويؤكد بذلك سلامة دولته الإسلامية.
فلم يترك الامام له هذه الفرصة فأعلن بيانه الشامخ: (السلام عليك يا جداه يا رسول الله)، وتلك تعتبر موقفا معارضا للحكم العباسي، إذن نلاحظ أن الإمام لم يكن ليغير في سياسة وإدارة البلاد دون أن يصنع ثورة وتغييرا ذاتيا ولذا فإن خوف هارون من وجود الإمام يعني أن تاثيره هو اضعاف على الناس لخلق جيل يستطيع من خلاله صيانة المجتمع، مما زاد من حنق هارون ليرى أنه لابد أن يقف أمام الإمام عليه السلام، ليأمر بسجنه ويحاول أن يبقي صورته الاسلامية أمام المسلمين حتى لا تتحرك المعارضة بشكل أكبر فعزله عن قاعدته الشعبية وحاول أن يتخلص منه في السجون التي يحبس فيها.
فكانت المحاولة الأولى في سجن البصرة وكان واليها عيسى بن جعفر الدوانيقي ولكنه امتنع من قتل الامام أو التضييق عليه طالما أن عيسى كان من أحد المرشحين للخلافة فزويت عنه فلا فائدة من عار قتل الإمام، وتلتها المحاولة الثانية في سجن الفضل بن الربيع فاعتذر، ثم إلى سجن الفضل بن يحيى إلا أنه أكرم الإمام فقرر إرساله إلى أسوأ من عرفه هارون وهو السندي ولم يعرف باسلامه فضيق على الإمام، فكان هارون يحاول بأساليب مختلفة لإسقاط شخص الإمام ولكن راهب آل محمد حطم بصبره وبثقته بالله سبحانه وتعالى كل وسائل الجور والإرهاب المعنوي والجسدي، وتضليل الرأي العام، ولم يكتم كلمة الحق التي اصدع بها رغم حجزه عن الأمة الاسلامية في السجن، فلم يبق لهارون الرشيد إلا عملية الاغتيال لشخص الامام (عليه السلام) وانهاء حياته، ولكنه ما فلح بحجب نور سليل النبوة وحبيب الإله، المفتاح الساطع للكتاب وحجر البيت في الأرض والسماء، فرحل من سجنه شامخا معطاء في المبدأ والفكر والإرادة لا يدانيه أحد وكما هو طريق آل البيت إن نهاية الدنيا حرية من قيودها وطريق إلى جنان الإله ورحابه.
فرحل سلام الله عليه مسموما في 25 رجب 183 هـ.، صَلباً في ذات الله وقويا يتحدى جبروت الرشيد وطغيانه، ويقول كلمة الحق ولا يخشاه، فعترة أهل البيت أبطال في مواقف الحرب وفي السلم، لا يعطون إعطاء الذليل، ولا يقرون إقرار العبيد، ولا يرون الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً، يلتزمون الحق حتى لو اقتضى منهم تضحية بأغلى ما عندهم وإلى هذا، أشارت كلمات زيارتهم، وهذا ما نتوجه به في زيارة الإمام الكاظم (عليه السلام):
"السلام عليك يا باب الحوائج إلى الله موسى بن جعفر الكاظم أشهَدُ أنكَ قَد بَلغت عن اللهِ ما حملَكَ، وَحفظتَ ما استَودَعكَ، وَصَبرت على الاذى في جَنبِ اللهِ، وَجاهَدتَ في اللهِ حق جِهاده حتى أتاك اليقين".
اضافةتعليق
التعليقات