كنت أبلغ من العمر ثمانية سنوات عندما ذهبت إلى الحمام الموجود في باحة المنزل حتى شاهدت أخي يقف خلف الشجرة وبيده قطعة من السجائر ويدخنها في الخفية دون مرأى أحد، لقد كان ذلك المشهد صدمة كبيرة بالنسبة لي، إذ أشاهد أخي الكبير يدخن وهو ما زال في عمر صغير ولم يتجاوز فترة المراهقة حتى أمر لم يخطر على بالي أبدا..
والكارثة الكبرى كانت تكمن بأن والدي رجل عصبي جدا، ولن يقبل فعلة أخي ولن يسامحه بسهولة إذا عرف بأمره ومن الممكن أن تحصل مشكلة كبيرة بينهما.
تكرر الأمر أكثر من مرة وأنا أشاهد أخي يدخن في الأوقات التي يكون البيت خاليا من أبي وأمي، والشيء الوحيد الذي قاله لي أخي هو أن لا أخبر أحدا بذلك.
حتى وإن لم يخبرني بذلك كان من المستحيل أن أقول لأحد عن هذا الأمر، خصوصا أني كنت متعلقة جدا بأخي وأحبه كثيرا ولن أرضى بأن يتسبب أبي بأذيته أو معاقبته.. كنت أدعو الله أن يترك هذه العادة السيئة قبل أن يكتشف أحدا امره ويفشي سره لأبي وتحصل الكارثة.
اليوم وأنا أتذكر ذلك الموقف أقول مع نفسي كيف استطعت أن أكتم هذا السر واحافظ على لساني ولا أفضح أخي أمام أمي أو أبي برغم صغر سني، كيف استطعت أن أسيطر على ذلك؟
الشيء الذي خطر على بالي هو لأني أحب أخي سترت على فعلته ولم أفضحه، خفت عليه من عقوبة أبي.. حسنا هذا بالنسبة لي أنا الانسانة الضعيفة، ماذا عن رب العالمين؟، لماذا يستر ذنوبنا؟، هل يحبنا؟ ويخاف علينا من عقوبة أحد؟
برغم كل الأفعال السيئة التي نفعلها ولكنه يستر على الكثير من أفعالنا الفاضحة التي لو أعلنت على الملأ لذهب ماء وجهنا..
يحب الله عباده والستر عليهم، لهذا السبب لا يفضح أعمالهم السيئة للملأ وينتظرهم عسى أن يتوبوا فيمحي سيئاتهم ويبدلها حسنات، ولأن الله يعرف جيدا بأن الناس لا ترحم المذنب وتبقى تنظر إليه بعين صغيرة، حتى وإن تاب واستغفر عن ذنبه لهذا السبب يستر عليه. فسجلات البشر ليست كسجل الله، سجل الله تعالى يعود أبيضا نقيا بمجرد التوبة والعودة إلى الله، إنما سجلات البشر تبقى سوداء برغم الاستغفار والاعتذار.
فيعطي الله تعالى عباده فرصا كثيرة بعد ارتكاب المعاصي، ويستر افعالهم المهينة ولكن مع الأسف هنالك الكثير من الناس سيظنون ان الله قد غض البصر عنها او غفرها لهم دون توبة!، وهنا يبدأ الانسان التمادي بالذنب والاستمرار بسلسلة المعاصي دون الخوف من الاثار الجانبية والغضب الالهي الذي يلحق الذنب، اذ يقول المولى امير المؤمنين (عليه السلام): " لْحَذَرَ الْحَذَرَ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَتَرَ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ غَفَر"
فيقوده التهاون الى محطة النسيان، فبالتالي الذنوب التي يفعلها الانسان ويتهاون من محاسبة نفسه والاستغفار عنها والتي احاطتها رحمة الله في الدنيا فستر الله عليها ولم يفضح صاحبها ستنتقل الى محطة النسيان فينسى العبد ذنبه دون ان يستغفر ويتوب... والستر الذي لمه الله به في الدنيا من الممكن ان لا يلمه في الآخرة، اذن الحذر واجب جدا، لان الله تعالى لا ينسى... يقول الامام علي: "من اهمل نفسه ضيع امره".
وهنالك سؤال مهم قد يراود فكرنا عن تلك الفئة المعاندة التي لا تعترف بالتوبة والغفران وتبقى تفعل المنكرات بصدر رحب؟، هل تستحق هذه الفئة الستر من الله؟
ليس بالضرورة ان يشمل الستر الدنيوي سترا اخرويا، اذ ان هنالك فئات من الناس يستر الله عليهم في الدنيا للحفاظ على المجتمع من الانحراف أي ان الستر من اجل امه وليس من اجل هذا الشخص بالذات، وسيفضحه الله تعالى شر فضيحة في الاخرة بسبب عناده واصراره على الذنب.
إذن من أحد الأسباب التي يستر الله بها على عباده هو من أجل مصلحة جماعية (أمة) وليست فردية حتى وإن كان هذا الشخص هو سيّء، ولكن يفعل الله ذلك حتى لا تشيع المنكرات في المجتمع، إذ إن كشف الذنوب للناس من الممكن أن يجعل المرء لا يهاب أحدا ويجاهر بالمنكر، فيترك ذلك أثرًا سلبيا على مستوى المجتمع وليس الفرد،
فيتجرأ الانسان على ارتكاب الذنوب أمام الملأ دون مهابة أحد، فيؤدي ذلك إلى انتشار المنكر وجعله أمرا عاديا ومنتشرا في المجتمع، إذ يقول تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
ويبقى على الانسان أن يضع جدولا يوميا لنفسه يراجع من خلاله أفعاله وأقواله، ويحاسب نفسه عن كل الأخطاء التي تصدر منه ولا يغفل عن الصغائر قبل الكبائر، ويستغفر الله عنها إذ يقول المولى علي عليه السلام: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا".
اضافةتعليق
التعليقات