إن من قواعد الحياة الطيبة بين أفراد المجتمع هي قاعدة [العفو] و[المغفرة]، -فكما يعرف- العفو بأنه "يُنبئ عن محو وازالة الفعل من صحيفة الفاعل نهائيا"، أما مفردة المغفرة فتعرف بأنها "تُنبئ عن ستر الشيء وعدم اظهاره أمام الآخرين".
وهما من صفات الخالق كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }(الحج60)، إذ نرى أن الآية قدمت صفة العفو على المغفرة؛ لكون العفو أبلغ وأشمل فمحو الشيء يجعله مستورا أيضا وغير ظاهرا.
ولابد للانسان المؤمن أن يتخلق بهذا الخُلق الالهي، كما أمرنا تعالى في كتابه العزيز بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ...}(١)، فإن لم يَقدر على أن يكون من أهل العفو تجاه زلات وأخطاء الآخرين فليكون غفورا (ساترا) لما يراه منهم؛ فالنفس البشرية ليس من السهل أن تغض الطرف وتعفو عمن أخطأ في حقها أو أساء لها، لكن المؤمن لابد أن يؤطر نفسه وفق القيم الالهية فلا تتحكم نفسه به، بل هو يتحكم بها، فهذا أطهر للنفس وأحفظ لسلامة القلب، وسلامة العلاقات المجتمعية.
أما الغفران فتعالى في محكم كتابه قال: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ}(٢)، هنا الخطاب جاء (للذين آمنوا) وهو خطاب خاص ليس لعامة الناس بأن يتحقق فيهم شرط من شروط الايمان وهو "الغفران" ولكن الآية الكريمة هنا حددت لصنف من الناس وهم (الذين لا يرجون أيام الله) بالنتيجة هم ممن لا يؤمنون بوجود جزاء على سيء الأعمال يوم الحساب وحتى الحسن منها!! لأن نظرتهم ضيقة ومحدودة في هذا العالم؛ فهذا الغير مرتجي لأيام الله ينطبق عليهم هذا الوصف بأنه "مغرور في دار غرور" فالتجاوز عنه فيه منفعة للغافر بالدرجة الأولى إذ إن ذلك موجب لتحقق السلام الباطني والقلبي، وكما وإن التحدث عن فعله السيء أمام الآخرين موجب لإيقاد نار الضغينة والحقد ورسم صورة سلبية بين أفراد المجتمع؛ بالنتيجة يحصل فساد، وهذا ما يهدم ولا يبني المجتمع، هذا من جانب.
ومن جانب آخر عبرت خاتمة الآية: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ}، فهذا الوعد الالهي يجعل المؤمن قادر على أن يغفر لأنه سيؤمن بأن كل إنسان سيعود يوم من الأيام ليلاقي ربه، ويحاسب على ما اكتسبت يداه، فينتفي عندها شعوره بأنه مغبون أو لم يسترجع حقه إذا صدر منه الغفران.
كما ويمكننا أن نتعلم درسان من هذه الآية هما:
الدرس الأول: إن كان تعالى يوجب علينا غفران أخطاء من ليسوا بمؤمنين، فمن باب أولى أن يكون الغفران متحقق فينا لأخطاء وزلات من هم أخواننا في الايمان.
والدرس الثاني: لو تأملنا قليلاً لوجدنا أن الآية تشير لوجه آخر وهو إن الأنسان المؤمن ممكن أن لا (يغفر) لمن (يرجون أيام الله تعالى) فيما بينه وبين ذلك المخطئ وليس أمام الآخرين، ولكن من باب التنبيه والحرص وليس البغض، وهذا باب جميل لتهذيب نفوس بعضنا البعض كأخوة مؤمنين، فالأنسان المؤمن الذي يعلم أن كل فعل وقول سيحاسب عليه ويجده في صحيفة أعماله عليه أن يكون دقيقا ومراقبا لنفسه، وكذلك يعتبر أخيه المؤمن هو نفسه؛ فإن أساء وأخطأ وجب عليه تنبيهه، فإن ستره وكأن شيء لم يحصل، فإنه بذلك سيعتبر نفسه لم يخطأ أصلاً، ويغفل عن فعله السيء الذي قد صدر عنه، فلا يتورع فيما بعد منه، لكن إذا تم تنبيهه سيقوم سلوكه.
بالنتيجة روح العفو والمغفرة مطلوبة بكل الأحوال عند كل مؤمن ليعيش حياة طيبة خالية من التنازعات والخلافات والتقاطعات.
--------
(١) الأعراف:199.
(٢) الجاثية: 14.
اضافةتعليق
التعليقات