لم تدرك ما تبتغيه فالخوف من المجهول كان يحيط بها، يفقدها لذة النوم، يجعل منها محاطة في دوامة من اشباح الهواجس كأنها لا تبصر النبراس فلا ترى سوى ظلمة قلب أمها وما سببه لها والدها.
كبرت بتول لتجد نفسها تقطن في بيوت أقربائها تتنقل هي وأختها مع أخيها ووالدتها التي انفصل عنها والدها منذ سنوات خلت ليتركها بين أنياب المجتمع القاسي ونظرته للمرأة المطلقة والذي لم يغفر لها ذنب زوجها بل وضعها هي في قفص الاتهام.
عاشت ام بتول لسنوات في بيت اختها وحينما كبر الأولاد اضطرت للانتقال الى بيت عمهم، وهكذا بقت بتول ترى نفسها عبئاً على كل من حولها ليس فقط على امها فحسب، كبرت بتول وكبر معها ذلك الحزن واحتل الخوف ثنايا قلبها من ان تلاقي مصير امها في المستقبل إن تزوجت.
مضت السنوات والكثير من الرجال كانوا يبغونها زوجة لكنها أبت وبشدة ذلك القرار المصيري، كانت فكرة الاقتران برجل تجعل منها وحشا كاسرا وبعد زواج أختها الكبرى التي كانت تصارع من اجل أن ينجح زواجها حتى لا تحمل لقب مطلقة، لتقتل داخل بتول حلمها وحلم كل فتاة بارتداء الفستان الأبيض، بقيت تخاف من المستقبل المجهول الذي صورته لنفسها حتى أصبحت عانسا.
دور القدر
كانت تستلقي في هدوء فوق الأريكة وهي سارحة ببصرها وكأنها تحلق بفكرها ووجدانها في عالم بعيد لايمت إلى كوكبنا الذي نعيش على سطحه بصلة، تتذكر كيف مضت حياتها وكيف اصبحت وحيدة على الرغم منها.
لم يكن والدها يحب الفتيات حتى انه لم يسع الى الانفاق عليها كما كان يفعل مع الصبية وكانت الام تسعى جاهدة لتوفر لها الثياب ومصاريف دراستها فقد كانت تحب دراستها حبا جما،
حتى اشرقت الشمس في ذلك اليوم الشؤم الذي سقطت به ناهد من السلم إلى أرضية البيت، غابت عن الوعي لساعات طويلة دون ان ينقلها ذويها الى اي مشفى.
تماثلت ناهد للشفاء من الكدمات التي تلقتها من اثر الحادث لكنها لم تدرك ان تلك الحادثة ستترك لها بصمة لا تفارقها طيلة حياتها.
اي وجع يمكن ان يكون داخل صبية يافعة حينما تجد احلامها الغضة قد تلاشت وما بقي لها حلم سوى ان تتماثل للشفاء بعدما لازمها الصرع المزمن الذي كان يخجلها حينما تتعرض الى النوبة اثناء الدرس، كانت حالتها النفسية تزداد سوءا جراء ما تتعرض له من الانتقاد لأسرتها والاسئلة الكثيرة لماذا لا تزورين الطبيب؟.
بينما الاب القاسي كان يجرحها بكلامه ويصر على ان تترك المدرسة وتلازم البيت فهي مريضة وليست بحاجة الى التعليم.
لكنها اصرت على ان تحقق حلمها حتى دخلت المرحلة الاخيرة في الثانوية (السادس علمي) وهناك قد زادت عليها وطأة المرض وكانت تزداد النوبات كلما ازداد ضغط الدراسة والاعمال المنزلية الموكلة لها.
لقد كان القدر سخيا مع ناهد لدرجة انه افقدها صحتها وتعليمها وأخيرا أطفأ زهرة شبابها ومحق جمالها بعدما لازمتها نوبة الصرع وهي داخل الحمام لتقع فريسة الماء الساخن الذي اذاب جلدها وشوهها بينما كانت تنظم ثياب اخوتها.
جاء صوتها الواهن بعدما افاقت: اين انا؟
احست باصوات كثيرة تتنقل حولها كانت لا تبصر جيدا ترى لماذا؟
تلمست وجهها بكف يدها الايسر فهي لا تشعر بكف يدها الايمن ولم تشعر بوجود عينها وكانت لا تسمع بوضوح، ارتفع صوتها قليلا: امي اريد مرآة، ابت الام الاستجابة لطلبها وراحت تبعد يدها التي كانت تمررها على جسدها وتقول لها ارتاحي ستكونين بخير.
تحولت نظرة الشفقة التي كانت تخترق كيانها حينما تلازمها نوبة الصرع الى نظرة ازدراء من شكلها الجديد او لربما خوف بعض الاطفال منها.
فقدت ناهد اهداب عينها وذابت اذنها وانسلخ نصف شعرها وتشوه نصف وجهها وعنقها اما كف يدها الايمن فقد تجمد والتصقت الاصابع مع بعضها، فقدت ناهد كل املها في الحياة لكن الايمان الذي بقلبها جعل منها تواصل حياتها بشكلها الجديد.
ومضت السنوات وتزوج الاخوة الخمسة وكل منهم عاش حياته بعيدا عن بيت العائلة وتقدم ابويها بالعمر، لم يكن للاولاد متسع من الوقت لزيارتهم وتفقد احوالهم وكانت ناهد هي من تسهر الليالي ان مرض احدهما وهي الوحيدة التي كانت ترعاهما.
لقد كان للقدر دور كبير في جعل ناهد عانسا رغما عنها.
لماذا لا تتزوج المرأة؟
الباحثة الاجتماعية نور الحسناوي قالت:
لقد توصل فريق من علماء النفس بدراسة دقيقة للاسباب التي تؤدي الى بقاء عدد كبير من الفتيات بلا زواج وتوصل الباحثون الى نتائج هامة في مقدمتها ان الفتاة العانس التي يفوتها قطار الزواج ليست دائما فتاة تعيسة.. فقد ثبت ان نسبة كبيرة من هؤلاء العوانس يعشن حياة سعيدة في تلك الوحدة التي اختزلتها او اختارتها لهن الظروف.
ولهذا يجب على المجتمع ألا ينظر الى مثل هذه الفتاة نظرة اشفاق ورثاء.
وواصلت الحسناوي حقيقة ان الزواج هو المصير الطبيعي لكل انسان رجلا كان او امرأة
ولكن هذا لا يمنع من وجود عدد كبير من الرجال والنساء على السواء الذين لا يرغبون في ان يشاركوا احدا حياته او يشاركهم احد حياتهم وهم قد اختاروا هذا المصير بكل ما يتصف به من انانية بالرغم من عشرات الكتب التي تصدر والمقالات التي تنشرها الصحف والتي يؤكد فيها الاخصائيون والباحثين ان الزواج هو طريق النجاح في الحياة.
حيث ان الفتاة عندما تتزوج ترضي كبريائها كامرأة وتخلص نفسها من العقد التي يحتمل ان تكون قد اصابتها عندما ترى بعض زميلاتها وقد سبقنها الى ثوب الزفاف السعيد، فالعروس في هذا الثوب الابيض تشعر انها تقف فوق اعلى قمة في العالم وهناك دليل على ما وهبها الله من خلق وجمال اقوى من ان يقف بجوارها رجل اختارها (من بين كل نساء العالم) لتصبح زوجة له وشريكة لحياته.
لكن هذا لم يمنع كما ذكرنا من وجود نسبة كبيرة من النساء والرجال تفضل البقاء بلا زواج.. فهم يفضلون حياة الوحدة على الزواج.
حتى هواياتهم كانت من هذا النوع الذي لا يحتاج فيه المرء الى شخص اخر يشاركه فيها.. مثال ذلك انهم يستهوون القراءة والوحدة والعناية بالحدائق باوقات فراغهم والرياضة المفضلة مثل السباحة او صيد السمك.
ولكن ابحاثا كثيرة اثبتت في نفس الوقت ان نصف هذا العدد من الرجال والنساء الذين لم يتزوجوا تمنوا لو انهم لحقوا بقطار الزواج حتى الذين تجاوزوا منهم الستين عاما مازالوا يأملون حتى الان ان يلتقوا بنصفهم الاخر، فما الذي حدث ليحول بينهم وبين تحقيق أمنيتهم؟
واضافت الحسناوي ان هناك عوامل كثيرة لعبت دورا رئيسيا في حياة هؤلاء الناس فالبعض منهم شرع فعلا في البحث عن شريكة لحياته وعندما عثر عليها اكتشف فجأة انها لا تصلح له.
والبعض ظل يبحث ويبحث واكبر الظن انه سيمضي بقية حياته يبحث عنها دون ان يعثر لها على اثر والبعض الاخر وجدها فعلا ولكنه وصل متأخرا فقد كانت ضالته قد اصبحت زوجة وأماً لعدد من الاطفال.
وثمة عامل هام يلعب دورا هاما في حياة الفتيات والشبان وهو الالتزامات العائلية فكثيرا ما نجد فتاة شابة او شاب يعملان ويشقيان لأجل رعاية ابويهما ان كان احدهما وحيدا او يعاني من مرض ما.
فقد يعزفا عن الزواج بدافع الشعور بالواجب او الخوف من المسؤولية وهو ما يحدث غالبا.
وسواء كان السبب في بقاء الفتاة عانسا هو حب الوالدين اياها وحاجتهم الى من يرعاهم ويسهر على راحتهم في شيخوختهم، او هو القدر الذي تدخل ليحول بين هذه الفتاة او هذا الفتى وبين الزواج.
فإن الحياة في مثل هذه الوحدة الاختيارية او الجبرية، حياة تفتقر دائما الى عطف الناس وتقديرهم في هذا المجتمع الذي نعيش فيه اليوم.
اضافةتعليق
التعليقات