كانت الشمس تبعث بآخر خصلها الذهبیة متبعثرة في سهول بلاد الشام، و هي تغازل القمر بعینیها الناعستین المزینة بأكالیل الغروب، بینما راحت عرائس المساء تزفها بأنسامها الصیفیة العطرة.
كانت درة الصدف، قد انتهت من أعباء النهار و أعمالها النسویة الجزئیة؛ فهي بارعة كسائر النساء في تركیب الجزئیات لتخرج بكلیة متجانسة و مركبة بجدارة تنم عن أنامل أبدعها الباري فاستحقت المدیح من قبل ذاته جلّ وعلا في نغمة قرآنیة مفادها: (تبارك الله أحسن الخالقین).
جلست علی الحصیرة متكئة علی الجدار محاولة الشعور بالاسترخاء بعد أن أطلقت تنهیدة أنمّت عن یوم شاق و طویل .
ما إن أطبقت جفنیها حتی کسر أنین واه مباني الصمت و السکینة. لم یکن الصوت غریبا أبدا إنه صوت والدها عبد الله بن عمر الأنصاي الصحابي الجلیل لرسول الله (ص):
قل العزاء و فاضت العینان و بلیت بالأرزاء و الأشجان
قتلوا الحسین وسیروا نساءه حرم الرسول بسائر البلدان
منعوه من ماء الفرات بکربلا وعدت علیه عصابة الشیطان
سلبو العمامة والقمیص ورأسه قسرا یعلَی فوق رأس سنان.
بدت سحنته شاحبة أکثر من ذي قبل، کانت عظام وجنته بارزة و قد بانت أخادیده هزیلة ضعیفة متهالكة في هیئة استسلام فضیع .
ما هذا الکلام یا والدي؟!
قتل الحسین؟!!
أین و کیف و متی؟!
لماذا یا والدي؟!
کانت درة الصدف شریفة الخصال عریقة النسب، کاملة الأوصاف، بلیغة لا تنقصها من کمالات النساء شئ. خطبها ابن عمها مصعب مرارا و الحّ في ذلك ولکنها رفضته لعدم ولائهه لأهل البیت (ع).
لم تعرف قبل هذا لونا آخر لظلمة اللیل الحالك أبدا!
ما کانت تراه لم یکن ظلاما، کان اتشاح الخلیقة بالسواد، إنه عزاء السماوات .
أصابت نیازك الغدر و الضغینة الهدف في سبط رسول الله (ص) .
بدا القمر بازغا أکثر من ذي قبل، یشع مضاعفا و ینیر بصخب و عنفوان. هل وجد قرینا یشحنه سناءً؟! یا للأرض الکسلی أظنها قد وهنت عن حمل قمر لبني هاشم فأهدته السماء.
تمتم عبد الله بصوت قرین الموت:
الجیش الأموي سیدخل حلب حاملا الرؤوس الشریفة فوق الرماح و قد ساروا بأهله و عیاله أساری في سكك الكوفة و الشام .
رعد و برق صوته الهادئ مخلفا قشعریرة صاخبة في جسمها. قلیل من الإنصات كان كافیا لسماع ضجیج الصراخات في خلایاها المنتحبة .
همست بضجة كانت جدیرة لیسجلها التاریخ منار شموخ و عزة وکبریاء:
یا أبتاه ! لا خیر في الدنیا بعد قتل الهداة ، فوالله لأحرضن في خلاص الرأس و أدفنه في داري و أفتخر به علی أهل الأرض إن ساعدني الإمکان.
خرجت و قد صنعت من الدجی درعا یحمي ما یلج في خاطرها من دوي لا یهدا، لتدعو الموالیات لآل البیت علیهم السلام بالخروج لنصرة سیدة النساء، مخدرة بني هاشم، السلطانة زینب الكبری (س).
جمعت من نساء الأنصار و الحمیر ما یقارب سبعین موالیة فدائیة مدرعة، مجهزة بالمغافیر .
مع طلائع الصباح دخلت العصابات الداعشیة التكفیریة الأمویة حاملة الرؤوس الشریفة، قمرا تلو آخر یشع أبهة و عظمة ؛ أبت شموخ اللبوات ذلك، فما کان منهن إلا أن هجمن علی الجیش و أخذن الرأس الشریف، لتهربن به إلی مدینة نجلة التي کانت تحت إمرة أبي الأسود الدؤلي.
عصفت ریاح الحزن و الأسی بالنجلیین، کان ما یروه محیرا و غریبا جدا، فقد استنجدت بهم درة لنصرتها .
أقبل علیها ابو الأسود مستفسرا:
من أنت؟!
علا هدیر صوتها متبخترا متباهیا یرن في أوتار الزمان:
أنا ابنة عبد االله سیدة قومي، و قد نهضت في بنات عمي وعشیرتي لآخذ رأس الحسین (ع) من هؤلاء اللئام ، فرأیت القوم في کثرة من العدد، فأتیت إلی دیاركم و القوم قد اقتربوا منكم فهل فیکم من ناصر؟!
أطرق الدؤلي مفکرا ، کان ما تطلبه هذه الحرة تختلف عن کل الطلبات التي قد تطلب من الملوك، إنه خیار بین الجنة و النار، و البقاء و الفناء، بین مدارج الإنسانیة و مهاوي الحیوانیة، إنه بصمة العطر الدامي أمام العفن الأموي الآسن.
قطعت درة الصدف حبال صمته مستفزة:
أظنك یا أمیر قد دخلت في بیعة یزید؟!
فانتفض الأخیر منفجرا کقنبلة صوتیة:
أقول و ذاك من ألم و وجد أزال االله ملك بني زیاد
و أبعدهم کماغدروا وخانوا کما بعدت ثمود وقوم عاد
فقالت له:
إذا کان فعلك موافقا لقولك ، فخذ في أهبتك و اخرج مع عشیرتك ، فإما الظفر فنفوز بما طلبناه و إما غیره فنلحق بالسادة الهداة.
نادی ابو الأسود الدؤلي ـ هذا الفارس الضرغام و العالم الشهم الذي وضع أسس و قواعد علم النحو بعد ما ألقنه ذلك أمیر المؤمنین علي بن ابي طالب (ع) - في قومه و بني عمه و جیش بهم في ۷۰۰ رجل و ۱۰۰إمرأة مدججین بالسلاح . فعزموا لنصرة سبایا الرسول (ص) محلقین مع النسور عالیا فوق القمم ، تأبی نفوسهم الحمیة أن تنساب کالدیدان في حفر الدهر .
في المسیر لاقاها ابن عمها و جدد خطبته لها بعد أن أعلن صارخا (أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و أن علیا ولي الله). و طالبها بالموافقة بعد أن ارتفع سبب منعها.
في الطریق اقترنوا بحنظلة ابن الخزاعي و ۷۰۰ من قومه و بنو عمه ، لتتقدمهم درة الصدف أبین من نار علی علم .
وافقت بالزواج من ابن عمها قبل دخول المعرکة بلحظات .
کرأس حربة جعلت الجیش وراءها سندا ، بینما ترتقي ذری المجد طعنت محمد بن الأشعث في خاصرته، لأنه کان یحمل رأس قمر بني هاشم العباس (ع)، فمال الرأس الشریف من یده، فاستقبلته في أحضانها قبل أن یصل إلی الأرض، حملته بیرقا زادته الشهادة تألقا و لمعانا، و وضعته علی الصخرة، ثم حملت علی (شکار ابن عم محمد الأشعث) و أردته قتیلا .ثم( مراد بن شداد المذحجي) حتی قتلت نحو عشرة رجال .
کان الأمویون في بهت و ذهول حتی اللحظة.
ما إن رأی المارقون عظم البسالة و الإستماتة من قبل الکوکبة النیرة من أتباع أهل البیت(ع) حتی حملوا علیهم حملة واحدة و منهم النسوة الدرر.
أردوا الدؤلي شهیدا نهل من مناهل الخلود و استطاب ؛ ثم تکاثروا علی حنظلة و درة الصدف و من معها لیلبسوهم ثوب الشهادة المتلألئ الناصع.
أخذت الغیلان الأمویة الرؤوس الشریفة و السبایا و الحرم و أتوا بهم إلی حمص .لتسجل بذلك درة الصدف فدائیة تراکضت مهرولة لتصل إلی رکب الحسین (ع) خوف أن یفوتها حتی لو کانت متأخرة بعض الشئ .
اضافةتعليق
التعليقات