من الشروحات التي تُذكر حول تفسير قوله تعالى: {...إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة:156)، هي إن الإنسان عندما يكون في بطن أمه يكون من مصاديق الضعف المحض حيث لا يكون له حول ولا قوة فأمره راجع لله تعالى، فهو حافظه، المهيئ له سُبل النمو والبقاء على قيد الحياة، وعندما يولد يبدأ يتعلق بأمه فيسكن إليها ويبكي إذا ما فارقها لأنه يراها مصدر الأمان له، وعندما يكبر شيئا فشيء يبدأ يبحث عن مصدر القوة في حياته فيتعلق بوالده بدءا وكلما كبر بحث عن نموذج القوة بمقاييسه الموافقة لما تعلمها وتربى عليها، قد تكون شخصية خيالية يراها في وسائل الاعلام مثلاً، أو شخصية واقعية في حياته تعايش معها بشكل عام.
(وهذا يحصل إذا لم يُربى هذا الانسان منذ البداية عن مفهوم التعلق الحقيقي بمن يجب أن يكون، مصدر القوة ما هو؟ مصدر الحنان من هو؟)
وهكذا عندما يُغادر الإنسان الدنيا سوف يعود وحيداً فكما كان [في بطن إمه] لا حول ولا قوة له، سيكون في قبره [في بطن الأرض] كذلك، فيرجع إلى المصدر الحقيقي الذي كان من البدئ عليه أن يكون مرجعه وملجأه.
وهذه الآية الكريمة تنبه الإنسان أن بين كل أشكال التعلق والانشغالات عليه أن تكون له وقفات مع نفسه، بمن هو منشغل؟ وعلى ما هو مستند ومتكل بشكل جزئي أو مستقل؟
حتى على مستوى طلب المشورة من الآخرين كما في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)، تعالى يخاطبنا أن إستشر غيرك وقرر ما تراه مناسبا لكن لا تكتفي بذلك بل أرجع أمرك لربك، فتعالى يُنبهنا حتى النفس ليست محلاً لأن نتكل عليها ونثق بها بشكل [مستقل] عن خالقها.
فكثيراً ما يكون السبب الأساسي في تعلقنا بالأشخاص وتمسكنا بوجودهم في حياتنا لأننا نعتقد أنهم مصدر قوة لنا، ودعم وسند، وهنا قدرتنا على تقبل عدم وجودهم في حياتنا يكشف لنا مدى صدق/ صحة علاقتنا بهم، ومدى حقيقة أثرهم في وجودنا الآن وفي ذلك العالم؛ فإن كنا قادرين على تقبل فكرة [التخلي] عن وجودهم معنا فهذا أمر جيد، ووجود هؤلاء الأشخاص مصدر قوة وحيوية لنا، بل ومصدر للرجوع لله تعالى في الواقع أي أننا نكون واعين لحقيقة من هو مصدر القوة الحقيقي بالنسبة لنا، فتعلقنا بهم يكون سليم وصحيح.
أما إذا كنا غير قادرين على إستيعاب خلو حياتنا منهم، أو فقدانهم كشخوص أو أشياء، فهذه علاقة ضعف وهي في الحقيقة مصدر تعب لنا أي لها أثر سلبي واقعي في مصيرنا ومستقبلنا، لأننا نكون بحالة خوف دائم من إحتمال فقدهم في كل آن!.
ومن الفقرات الدعائية التي تربينا على هذه الحقيقة هي: (يا سند من لا سند له) - ففي الغالب -إنك لو فتشت في قلب من تلجأ إليه كسند وعون، ولو أظهرت له شيء من القوة والإرادة فيك، ولم تبح له بحاجتك هذه لطلب هو منك ذلك، كل ما في الأمر أنك سبقته، ولكن خجله من أن يَرد طلبك جعل الله تعالى [بلطفه] يَمده بالقوة ويسنده ليكون لك ما طلبته من إعانة وإسناد؛ لذا الأمر يحتاج أن نحسن توجيه بوصلة قلوبنا إذا ضعفنا واحتجنا إلى سند بمعرفة المصدر الحقيقي من هو.
ومن هنا فإن تقبلنا للتخلي عن الأشياء والشخوص بهذا المعنى أي لا ننظر لهم بشكل مستقل، يجعلنا في فهم واقعي لموقعية كل شيء في حياتنا كقابلية رحيلهم، وحتى إحتمال استغنائهم عنا، حقيقة إننا راحلون أيضا في يوم من الأيام، وأن لكل إنسان دور ووظيفة في حياتنا كما نحن كذلك، بالتالي توجيه بوصلة قلوبنا للقادر الحقيقي لأن يقوينا ويغنينا، ويسندنا، فلا نتعب بعدها إن خذلنا هذا وذاك.
فالكل في مصب الفناء والرحيل والضعف، ويبقى وجه ربك ذو الجلال، فتعلق بالباقي لتبقى قويا فلا يصيبك بعد ذلك نصب ولا عناء.
اضافةتعليق
التعليقات