يقال: ليس المهم أن تملك المفتاح في يدك أو جيبك، أو تضعه في فتحة الباب! بل المهم أن تنتفع منه بفتح الباب، ورؤية ما في داخله.
وهكذا كلمات الثقلين من كتاب الله وعترة نبيه كهذا المفتاح إن لم نفتح بها باب قلوبنا، ونرى من خلالها ما نحتاجه في استقامتنا في هذه الحياة، لنخطو إلى الامام بثبات واطمئنان، فلا قيمة لها إذا امتلكناها في عقولنا!.
ومن هذه المفاتيح هي ما ورد(١)عن أبي عبد الله (عليه السلام) في تفسيره لقول الله عز وجل: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾، قال:" ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً"، فالمؤمن يجب أن يكون دقيقا في اختيار العمل من حيث الاهمية والأولوية ليتحقق مفهوم الصلاح والحسن، أي أن نعمل ما فيه تتحقق المصلحة العامة لا المنفعة الشخصية فقط.
ثم قال: "وإنما الاصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة"، فالله عز وجل يُعرف أصحاب الخشية هم العلماء، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}(فاطر:28)، وبلوغ العلم الحقيقي يكون بالتقوى، {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}(البقرة: 282)، وفي قوله تعالى تم ربط التقوى بالخشية في قوله: ﴿وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ(48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ (طه: 49)، بالنتيجة إن الخشية من صفات أهل التقوى التي توجب حالة العلم واستشعار نظر الله تعالى ورقابته واحاطته بنا.
أي إن إيمان العامل ومعرفته بأن الذي يرى ويجازي هو الله سبحانه في كل الأحوال يجعله يخلص في عمله، ويعمل عمل الخائفين كما في الدعاء: "اللهم اجعلني أعمل عمل الخافين منك"، كما يقال: المقصود هنا الخوف الايجابي الذي يجعل العبد يتقن ويخلص في آن واحد بما يعمل.
ولذا نرى الإمام (ع) نبه معللاً أهمية وجود الاصابة بالعمل من خلال خلوص النية والخشية بهذا الفقرة ثم قال: "الابقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل"؛ فإن المرحلة التالية التي تُبقي العمل صالحا وحسنا هي أن نحافظ على نوايانا الصادقة في أصل غايتنا من الاقدام على العمل، فإن كثير ما تفسد نياتنا في العمل بعد القيام به بقصد أو عن غير قصد، كالرياء والعجب والمنة،.. وغيرها.
وبتعبير آخر: علينا أن نحافظ على النية الأولى فلا نجعل نية أخرى تصاحب النية الأولى فتفسدها وبالتالي تفسد العمل.
وفي الحديث: "صفتان لا يقبل الله سبحانه الاعمال إلا بهما: التقى والاخلاص" (٢).
ثم بين علامة تحقق صلاح العمل حيث قال: "والعمل الخالص الذي لا تُريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزوجل"، أي إن عمل المؤمن يأخذ نوع من الخفاء، فطبيعة العمل الذي لله سبحانه مع كونه مجهد ومتواصل يأخذ نوع من الخفاء فصاحبه يبذل جهود كبيرة لا ترى، وقد لا يعلم بها أحد، وهذا يحتاج إلا نفس مؤمنة وصالحة لكي تحقيق هذه الدرجة من الاخلاص لله سبحانه، كما قال النبي (ص): "لايستكمل العبد الايمان...، حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف".(٣).
فالمؤمن يُحب أن [يُظهِر] ما أنعم الله تعالى عليه من نعم بتقديم النفع للغير، وليس من أهل حب [الظُهور] الذي يعمل ليكون من اهل التميز امام الاخرين فيحظى بالثناء من الناس والمدح!.
فالنفس عادة تحب أن تُمدح على ما تقول وإن لم تفعل فكيف إذا فعلت؟! وهي حالة ذمها الله عزوجل، ولم يَعُدها من سمات الصالحين فهي تكون مشوبة بعدم الاخلاص كما في قوله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ...﴾ (العمران:188).
وفي قوله تعالى:﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا...﴾( الشعراء :227).
ومن أهم الأمور التي تمتلكها هكذا نفوس لتستمر وتكون لها هذه القدرة هي: (التوكل الدائم على مصدر العطاء) فهم لا ينظرون أو يعتمدون فقط على الأسباب المادية بل إلى مدد الله سبحانه الذي هو الاصل في التوفيق والتسديد للأتيان بأي عمل، فهم لا يصرفون نظرهم على قوة احد غير الله سبحانه، ولاينتظرون العون والمدد إلا منه ولسان حالهم هو قوله تعالى: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (إبراهيم :12).
وكذلك لهم، (قلوب مطمئنة بذكرها الدائم لله عز وجل).
كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ (الرعد:29)، فالوصول إلى حالة الاطمئنان القلبي من محفزات للاستمرار وإن كانت الأعمال مصاحبة بالضغوطات والصعوبات وحتى الخذلان من أقرب الخلان، فمتى ما كان العمل ذو ثمرة أوجب لصاحبها الترقي في الجانب المعنوي من وجوده، وبالتالي توصله لدرجة النفس المطمئنة والبهجة فهذه أقصى غايات العامل، وأجلى صور الاحسان والصلاح.
ثم ختم الامام بقوله: "والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي العمل، ثم تلا قوله عز وجل: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ...﴾ (الإسراء :84), يعني على نيته".
فقد بين الامام في هذه الفقرة أهم وأصل المقومات التي بها يكون عملنا صالحاً وعلى أحسن وجه وهو"النية" أي القصد الباطني والدافع الذي من أجله نقدم على القيام بأي عمل، فمتى ما كان المقصد هو لوجه الله (عز وجل) كان العمل حَسن ومقبول.
وهذا القصد الباطني يتجلى إلى قصد ظاهري أي إلى سلوك عملي وهذا هو الأهم، فأي عمل إنما هو بالأصل ابتدأ بفكرة في الذهن، ثم إذا توافق العقل مع هذه الفكرة وانجذب اليها وجدانيا طبقها بشكل سلوك (عمل).
لذا فقول الامام: "لا عمل إلا بنية"، هو في حدود ماافهم يشمل هذا المعنى، وهو تنبه لنا لكي نحسن اختيار نياتنا.
وبتعبير آخر: اختيار الفكر الصحيحة التي هي اما ممَا غرس في فطرتنا كما يبين الامام (ع):"جميل المقصد يدل على طهارة المولد.(٤)، أو مما اكتسبناه من محيطنا الخارجي والتربوي وذلك من خلال عرضها على منظومتنا الفكرية السليمة لنبلغ بذلك المقصد الأسمى وهو
أن يكون عملنا حسن صالح، أما إذا لم تعرض تلك الأفكار(النيات) وتراقب فهو سيعمل بشكل عبثي، وسيفسد منا أي عمل.
لذا حثنا الامام علي (ع) على ذلك بقوله: "عود نفسك على حسن النية وجميل المقصد تدرك في مباغيك النجاح"(٤)، فما لم تكن النية سليمة وخالصة لله عزوجل فلن يبلغ الانسان آماله الحقيقية مهما اجتهد.
اضافةتعليق
التعليقات