حشود مليونية وفدت من كل مكان باختلاف طوائفها وانتماءاتها اجتمعت في طريق واحد تآلفت قلوبها لغاية أسمى من كل اختلاف، ألا وهي اجتماعها عند حبيب سكن القلوب وجمعها باختلافها، حبيب يبغون به العروج لعرش السماء، فكانت هذه الجموع أصدق عنوان للتعايش والمعنى الاسمى للانسانية والعطاء، لنعيش معهم ونستلهم مما عايشه الآخرون، نستعرض ما قالوه بعض هذه النماذج الخيرة المميزة عن احساسهم وما عاشوه خلال هذه الأيام المباركة المميزة بكل مابها..
حيث قال السيد هيثم يوسف/ مصمم فني:
شاهدت مئات المواكب على طريق المشاية تخدم ملايين الزوار بشكل متواصل يوميا من الفجر إلى الفجر تقدم لهم مجانا مختلف أنواع الطعام والشراب "البارد في الصباح الحار والساخن في الليل البارد".
شاهدت الزوار على مختلف بلادهم يمشون نحو الحسين عليه السلام في المطر والغبار، في الحر والبرد، بين مريض وحافٍ وعلى عكاز وعلى كرسي متحرك.. لا يبطئ من عزيمتهم شيئاً.
شاهدت الزائر يكاد يقع على الارض محاولا الابتعاد عن لمس النساء في الازدحام الشديد وعند التدافع.. شاهدت شيخ العشيرة يدلك أقدام الزائر، ويضع طبق الفاكهة على رأسه ينادي: هلا بزوار الحسين، وأولاده من خلفه يوزعون الماء والتمر..
شاهدت العراقي يأمر أهل بيته بإخلاء المنزل لينام لديه أكبر عدد من الزوار، يطعمهم ويغسل ملابسهم ويبيتون عنده.. ثم يودعهم ويعتذر لهم عن التقصير..
شاهدت المفارز الطبية على طول الطريق تقدم الدواء لكل محتاج دون أي مقابل مادي.. لا تسأله من أي بلد جئت إلا بغرض الترحيب فيه..
شاهدت المواكب تحاول ابتكار الخدمات المجانية التي تقدمها للزوار، فذاك وضع غسالات للملابس، والثاني يصلح عربات الأطفال والآخر يشوي السمك ويطبخ الرز، والبعض يقدم كهرباء لشحن الهواتف النقالة، او يفتح الواي فاي للمحتاج أو يرش الزوار بالعطور.. وغيرها مما لا يمكن حصره..
ثم يأتيك من لا حظ له -من سوء توفيقه- لا ينقل عن الزيارة إلا حوادث سلبية فردية تحصل هنا أو هناك.. وينسى او يتناسى أن 15 مليون زائر مر من هنا لا ينقصه شيئ إلا ويجده بالمجان..
تلك مشاهداتي أنا هيثم يوسف.. زائر لبناني سابع زيارة أربعين.
وتحدثت لنا الناشطة الاجتماعية منار قاسم عما شاهدته وماقدمته خلال هذه الزيارة:
زيارة الأربعين، جهد كبير يمنحك راحة نفسية تنسيك هذا الجهد، تجعلك تحلق عاليا، تجعلك تجدد الثقة بالمجتمع نوعا ما..
زيارة الأربعين فيها مشاهدات عديدة ومتنوعة، تبدأ بالطفل الرضيع إلى الشيخ الكبير، نساءا ورجالا واطفالا يمشون في طريق الاخلاص، يمشون الى الحسين، رأينا هذه السنة الكثير من المواقف التي تجعلك تبكي بحرقة، شاهدت العاجز، المريض، الكهل الذي جاء متوسلا بالحسين ليرضى الله عنه، زوار من كل مكان صينيين، إيرانيين، باكستانيين، هنود وووو.. جاءوا متلهفين لزيارة الحسين عليه السلام.
ونقلت لنا الكاتبة ضمياء العوادي مشاهدتها والتقاطها لصور عدة من هذه المسيرة المميزة حيث قالت:
عندما تسير في طرقات الحب السامي، ترى أعظم مواطن الاخلاص والتفاني، المشاهد تترى، ترى الغني ينحني للفقير في غير عادة، الخدمة في أوجها لا تعلم من شيخ العشيرة ومن المرفوض فيها، ومن رجل العلم ومن المذنب، لاتعلم المسلم من المسيحي ولا القائد من المواطن العادي، الاخرس يخدم والأعمى يقرأ، الصحيح يقدم ما بوسعه، وجدنا من اقترض الأموال لأجل الخدمة، ومن صب جل أمواله لأجل الاطعام، ومن زاحم بيته بأفراد لا تجمعه صلة فيهم، ومن ترك بيته لأكثر من عشرة أيام ليتفرغ للزوار، هذه المظاهر لا ترى في الأيام الأخرى، النظافة لها مواكب خاصة الكبير ينظف قبل الصغير، هذه المشاهد الايجابية والتي تمثل الجزء الأكبر مقارنة بالسلبيات لايمكن إلا أن تكون مفخرة نحسد عليها، فخمسة عشر مليون إن دخل هذا العدد الى أي بلد سنلاحظ العجز المادي والمعنوي لتلك الدولة أما نحن فلم نسجل إلا بعضا من النقاط والتي لا تتعدى عدد الأصابع وهذا قياس بالفارغ بالنسبة لعدد من السلبيين الذين يرون الأمور بعين ضيقة.
وممن تركوا بيوتهم وخرجوا للخدمة في هذه الزيارة قال مصطفى السوري:
إن زيارة الاربعين من معاجز كربلاء سألوني عن مشاهدة الأربعين وكل مارأيت كان جميلا ومن خلال عملي شاهدت الكرم الحسيني والأخلاق الحسينية من الزائرين يفوق الخيال فهناك مشهد علق في ذاكرتي طفلة صغيرة تشارك أباها في توزيع الماء على الزائرين وتقبل أماكن شربهم.. الموقف الذي جعلني أعيد ترتيب نفسي أمام هذه الطفلة.
وموقف آخر رجل ترك ولده في الطريق بين النجف وكربلاء وعندما سألته عن ولده قال قد اتفقت معه لنرى من يسرع في زيارة الحسين أنا أم هو.
اذن طريق الحسين عليه السلام يصدق عليه "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض...".
أما ضياء الدين السوري فقد قال: هذه الزيارة الأولى التي يشارك فيها من يعانون من (متلازمة داون) بكل حرقة منهم واخلاص حتى تركوا أثرا في قلبي وصرت أقف مذهولا..
وكان للست جنان آل ماجد مستشار في التخطيط الإستراتيجي المؤسسي بمنهجية DCA ومعتمد من معهد ايفياس البلجيكي وأكاديمية التطوير المؤسسي حديثا حول ذلك حيث تنقل ماشاهدته وتقول:
شاهدت عمق المحبة والارتباط الروحي بين جميع الزائرين من مختلف المذاهب والأديان والشعوب والقوميات وسبط النبوة الامام الحسين عليه السلام، رأيتهم يترجمون عشقهم للحسين عليه السلام بخدمة بعضهم البعض وبتواضعهم فكان رجل الدين المعمم يخدم ضيوف الحسين ويسعى لراحتهم، يترجمون عشقهم للحسين عليه السلام بأداء الصلاة في اول الوقت فلقد أصر مجموعة من الشباب في مرحلة المتوسطة من محافظة ميسان على سائق الحافلة في طريق النجف الى كربلاء أن يقف لأداء الصلاة في اول وقتها قائلين ان الحسين خرج لأجل الصلاة.
يترجمون عشقهم بعفوهم وتسامحهم وحبهم للصغير ومساعدتهم للكبير ألفة غير طبيعية بين الجميع رغم أنهم لايعرفون بعضهم مسبقا، صور كثيرة للتكافل الاجتماعي؛ رجل مسن من الجارة ايران في طريقه الى كربلاء لايملك نقودا كافية لأجرة الحافلة تدفعها عنه امرأة من كربلاء..
كثيرة هي القصص، الفرق التطوعية الشبابية ومن مختلف المحافظات لارشاد الزائرين، تنظيف الشوارع تنظيم حركة السير وتنظيم ركوب الزائرين في الباصات، مساعدة المرأة والمسن، التوعية صحية.
المتطوعين في المجال الصحي من اطباء وصيادلة وتمريض من كافة دول العالم، مخيمات للقراءة؛ اقرأ كتاب وخذه معك، مخيمات لرسوم الاطفال تحتوي معاني كثيرة، محاضرات ثقافية،
ازدياد عدد المواكب الخدمية بشكل ملحوظ وتنوعها قي تقديم الخدمة، ازدياد الوعي الثقافي والاهتمام بالنظافة.
لفت انتباهي طابع الحزن على محيا وجوه الزائرين يستشعرون مولاتنا العقيلة سلام الله عليها وهي تسير مع السبايا في طريق العودة إلى كربلاء.. إحدى الزائرات على مشارف ال90 تتوكأ العصا وتسير تستشعر ماكابدته زينب الكبرى عليها السلام.
آلمني كثيرا النقص الواضح في وسائل النقل لعودة الزائرين إلى مدنهم مما اضطرهم للسير عشرات الكيلومترات من مركز المدينة الامر الذي يستدعي من الحكومة المركزية والمحلية وضع خطط استراتيجية تؤمن انسيابية نقل الزائرين وعودتهم بسلام الى مدنهم حيث ان الاعداد تزداد كل عام بمعدل مليوني زائر حسب احصائيات السنوات الثلاث الاخيرة وخاصة في هذا العام فقد كان دخول اغلب الزائرين في الخمسة الايام الاخيرة للزيارة.. لذلك نأمل ان يكون الاهتمام بهذا الامر على قدر عال يتناسب مع مستوى وحجم الزيارة..
وشاركتنا الكاتبة فهيمة رضا ما التقطته خلال أيام هذه الزيارة الاستثنائية فقالت:
ما رأيت إلا جميلا، مهما شاهد الإنسان من وراء التلفاز أو سمع عن كرم خدام سيد الشهداء عليه السلام لا يستطيع أن يلامس ذلك الجمال الحقيقي الذي يوجد بين الأيادي الصغيرة لأولئك الأطفال الغيارى، الذين يقدمون الطعام والضيافة حباً بسيدهم ومولاهم.
لا يستطيع أن يفهم معنى الكرم إلا إذا وقف أمام تلك العجوز التي تقدم التمر رغم احتياجها وفقرها أو ذلك الشاب الذي يتواضع للزائرين وينظف أحذيتهم ويقوم بما يقوم من خدمة في سبيل خدمة زوار سيد الشهداء.
هذا الطريق طريق النور والهداية، طريق الوصول إلى الرشد والسعادة..
وكان لنا وقفة مع احدى الشابات المؤمنات أيضا ممن خدمن الزوار الوافدين والتي تحدثت بشجى وشوق لبقاء تلك الأيام دون رحيلها وشعورها المتصل بالكلمات عندما تنقل ما شاهدته وأحسته فتقول:
يمشي شتى الناس من جميع أنحاء العالم سيراً على الأقدام لا يوقفهم حر ولا برد ولا جوع ولا عطش قاصدين غريب كربلاء، حتى ذلك المريض يمشي إليه، أقف بعيداً عن الطريق (طريق المشاية) انظر بدهشة وتعجب وأقول صدقتِ يامولاتي زينب عندما قلت (والله لن تمحوا ذكرنا)،
والعجب كل العجب ترى أن عامة الناس على مدار السنة يجمعون الأموال لهذه الزيارة فمنهم من تجده يطبخ للزائرين ومنهم من يخدم بكل رحابة صدر ومن يفتح بيته ومنهم من يفترش ذلك الطريق ليلبي حاجات الزائرين فتعددت الخدمات بأنواعها حتى شملت المفارز الطبية ومن ضمنها لهذا العام حتى عيادات الأسنان، بل العجب أن عامة الناس منهم المعتادون على مكان نومهم المخصص أو وسادة معينة أو وقت نوم معين لكن نجدهم في هذه الأيام (ايام زيارة الأربعين) تخلو عن كل هذا لأجل الزائرين، تجد الكثير يجاهدون أنفسهم ويتغيرون لأجل الحسين عليه السلام، منهم من يترك سماع الحرام ومشاهدة الحرام وفعل الحرام ويلتزم صلاته، فالحسين لا تصفه أقلام ولا أوراق ولا تعبير.
وفي طريق النجف وكربلاء كانت حكايتي، وجدت نفسي مركزة في تلك العيون المرهقة لإمراة تبلغ من العمر ٧٧ سنة نحيلة جدا أعطيتها الماء لم تنتبه لي، فتسألت في نفسي بماذا هي مشغولة؟!
وكيف مشت من البصرة إلى كربلاء؟؟
رأيتها جلست على الطريق ذهبت إليها:
_ السلام عليكم يمه خو ما تعبانة.
_ ردت وعليكم السلام بنيتي لا ما تعبانة مادام زينب تمشي أنا أمشي لطريق بأضعاف التعب دون طعام ولا شراب ولا راحة حتى دون توقف، وهم اعظم خلق الله، تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ لكنما عيني لمصابك باكية يامولاي.
والأحاديث كثيرة والمشاعر والأحاسيس لمن عاشها لا يكفي حبرا لنقلها ولا يسعنا أن ننقل جميعها
لكن نختم مع الكاتب الاستاذ حسين المتروك الذي أبدى مشاعره الجميلة ومدى تأثره بهذه الأيام المستثناة، الأيام المباركة العظيمة فتحدث عن كربلاء:
ليست كباقي المدن التي في الذاكرة، هي المدينة التي تبقى تحوم في خلاياك، تصارع كل الأفكار لا تنسى ولا يمكن تناسيها، تتربع على عرش العوالم الداخلية التي تسكننا، هي من تمدنا بالوجود، كربلاء لم تكن صحراء، كربلاء وجدت لتحتضن السماء، تهيأت على مر العصور، طاهرة تنأى بنفسها عن الحضور إلا بالدماء الجارية، فكل ذكرياتها حزن وبكاء ودماء، كل زائر لها لا يعود، يبقى معلقا كالنائم، روحه تسافر في كل "لبيك" وتهتز مع كل نداء يا حسين.
هل حقا غادرت كربلاء؟ هل حقا سافرت بعيدا؟
شكرا لكل أهالي العراق، شكرا لكل الأصدقاء هناك، شكرا لمن احتضنني وسمح لي بالحديث معه، شكرا لمن آخيته الحسين وفي الحسين، شكرا لمن ساندني وقدم لي النصيحة أو كلمة شجعني بها، أسأل من الله لي ولكل الزوار العودة القريبة في خير وعافية.
اضافةتعليق
التعليقات