في منتصف الليل يجلس قرب النافذة المطلة على فناء الدار، كل ما يراه هو شجرة تفاح وبعض من اغصان القداح التي قد فاح عطرها في المكان، يحدق في زوايا الغرفة، جدرانها المعتقة لها حكاية لا تنسى، الفانوس الذي ينير عتمة ليله يشعره بقيمة النور، والسيف المعلق على الجدار المقابل يشعره بقيمة الحرب وفرحة الانتصار، الدرع الذي جعله فوق رأسه يشعره انه ضعيف ويحتاج الى من يحميه، ثمة أمور مهترئة يعتز فيها، حتى تلك الذرات من التراب الأحمر جعلها في قارورة واحكم عليها، كل شيء هنا مختلف.
عندما تتفقد ذاكرتك ليلا، يصبح الوقت طويل جدا، وقد تظن ان الصبح بعيد جدا، حتى الشمس تشعر بأنها نائمة ولا تود ان تستيقظ، وبالنهاية تبقى انت وذاكرتك في حلبة الصراع، قد تقضي عليك وتسقط عند اول حادثة تعرضها عليك، وقد تقضي عليها بتلك الابتسامة والرضا بما حصل.
ما زال جالسا ينظر، يخط على زجاج النافذة حروف مقطعة لو جمعتها ستعرف ما كان يدور في رأسه، هذه هي: (ح . س. ي .ن) كثيرا ما كان يردد هذه الحروف، حتى ظن البعض انها طلسم، أو تعويذة، هذه الحروف كانت تزيل عنه تجاعيد الأيام وألم السنين، كانت دفئا لروحة.
خيوط الماضي بدأت تنسحب من ذاكرته، مع اقتراب بزوغ الفجر، انتهت رحلته مع قطار الماضي وحان وقت الحاضر، جهز نفسه لأداء فريضة الصبح، وقف خلف والده وصلى جماعة، الجميع هنا يعرف والده بشجاعته ومواقفه المشرفة في الحرب، حتى شهدت له معركة القادسية، حيث ابلى بلاءً حسنا فيها، اخذ خصال البطولة والشجاعة من والده، يحدثه كثيرا عن الحروب حتى جعل منه مقاتل رغم صغر سنه، يأنس لسماعه صولات والده، وزمجرة السيف، وثياب الحرب.
في طريق العودة الى الدار، طلب من والده ان يقص له حتى لا يشعر بالملل في الطريق، عرف والده ماذا يرغب عبد الله في سماعه، أمسك يده وقال: في يوم من الايام اراد سعد بن ابي وقاص ان يوزع الغنائم، بقيت فضلة، فكتب الى عمر ما يفعل بها، فرد عليه عمر، ان فضلها على حملة القران، فجاء عمرو بن معدي كرب فسأل سعدا عنها، فقال له، ما معك من كتاب الله، قال له: شغلت بالقتال والجهاد عن حفظه، فقال له: ما لك في هذا نصيب، تقدمت نحوه فقال لي: ما معك من كتاب الله، فقلت له بسم الله الرحمن الرحيم، فضحك وضحك كل من كان حوله، ولم يعطني شيئا.
ثم كتب الى عمر مرة اخرى، ان اعطها بسبب بلائهما، فأعطى كل واحد منا الغبن، فقلت في حينها ابيات من الشعر، وبعثتها الى عمر..
أنخت بباب القادسية ناقتي وسعُد بنُ وقاصٍ عليّ أميرُ
تذكر هداك الله وقع سيوفنا بباب قديس والمكر عسيرُ
عشية ود القوم لو ان بعضهم يعار جناحي طائر فيطيرُ
اذا ما فزعنا من قراع كتيبةٍ دلفنا لأخرى كالجبال نسيرُ
اندهش عبد الله من هذه الابيات وعرف ان والده كان اسدا صارما في الحرب، وتمنى أن يحذو حذو ابيه، امتزجت امنياته بدموعه، هل ينال الشرف كوالده، انهى الطريق وهو يلحن مع نفسه انشودة الحرب، في واحة الروح هناك بقايا من الاماني، وسعيدا من ينالها ولكن لا ينالها إلا ذو حظ عظيم، تنهد بتنهيدة جعلت اباه ينتبه لحسرته، انحنى على عبد الله وقال ستنالها يا ولدي.
هذا اليوم يختلف كثيرا عن الايام السابقة، اوقدت القناديل الفضية في المدينة، زينت بتلك الزهور البيضاء، اعلنت عائلة الخثعمي عن زفاف ابنهما عبد الله، كل تلك الزينة لم تشغل باله وما يشغله هو الوصول الى غايته، جرت مراسيم الزواج واقيمت مأدبة طعام وحضر وجهاء وشرفاء مدينة الكوفة لمعرفتهم بهذه العائلة الاصيلة، ولمكانة عبد الله عندهم فقد كان راويا معتمدا عندهم.
اشياء كثيرة تتغير فينا، حتى ملامحنا لم تعد صافية، ارواحنا تكدست عليها الهموم، ولم تعد تقوى على التحمل، أجسادنا ترتعش كسعفة خاوية، هكذا نحن نتغير كالفصول، بعد مرور الزمن انجب عبد الله ولدان هما عمير وعبيدة.
اشتاق لرسم تلك الحروف المقطعة التي اعتاد ان يخطها لكن هذه المرة ليست على الزجاج خطها بنجوم السماء، ورسم طريقا لهذه الحروف، من ينظر إليه يعتقد انه يحاكي السماء فجميع حواسه تتحرك، تدمع عيناه، يرفرف قلبه كجناح حمامة تعانق السماء لأول مرة، يداه ترتجف ويكاد ان يسقط من الأعلى، انهكته الحروب والغزوات التي خاضها مع الرسول والامام علي (عليه السلام) في حروب ثلاث وشارك ايضا مع الامام الحسن في ايام محنته مع معاوية، ثمة معركة اخرى هي التي ينتظرها لكنها لم يحن وقتها بعد..
سار داخل المدينة الفارغة بعد منتصف الليل لم يجد اثر لبشر ما، كأنها مدينة مجهولة، قومها في سبات، قرر الرجوع الى الدار وانتظار الموعد المحتوم، بخطوات متثاقلة، يحدق في الارض، ضوء خافت يبعث من الفانوس، فراغ كبير في داخله، هدوء قاتل يعم المكان، حتى روحه باتت هادئة، تغيرت ملامح وجهه، اخذ يشهق ويزفر، ويخط السيف على الارض، يرفع رأسه الى السماء ودموعه تنهمر على لحيته، نظر الى تلك الحروف وقد انارت السماء واقتربت منه، حتى ذاك الطريق الذي كان يرسمه صار امام عينيه، عرف ان الحظ بات قريب جدا منه.
بعد ايام سمع همهمات في مدينة الكوفة عن بدأ الحرب وان يزيد اعلن اغلاق جميع الطرق المؤدية الى مكان المعركة، وعلى جميع القبائل أن يتعاونوا مع يزيد ويعلنوا بيعتهم، كان الطريق مملوءا بالمخاطر، فكر جيدا قبل أن يهرب، لم يعرف كم المسافة التي يستغرقها في الوصول الى الحسين، انغلقت جميع الطرق، لا يمكن الخروج من هنا والوصول الى الحسين، فكر بان أفضل حل للقضية هو ان يتظاهر بانه يريد الخروج مع الناس للحرب مع يزيد ضد الحسين، ثم بعد ان يصل الى الحسين ينتمي الى معسكره، وهذه كانت الخطة ليصل الى الحسين، وصل الى مشارف المدينة، كان هناك خيام واطفال، جلس ليستريح وتذكر ان الوقت يراهن عليه، اكمل طريقه وصل الى خيام الحسين (عليه السلام)، تذكر هذه الآية: (لا ينالها الا ذو حظ عظيم) وهذا ما حصل بالفعل، حيث التقى الحبيب عبد الله بحبيه الحسين، عندما ترى من تحب هكذا تسلم نفسك بسهولة، كما تسلم النجوم للسماء.
بعد نظرة من الحسين ورؤيته المشرقة ماذا ينتظر؟
القتال مع الحسين يجعله ذو مقام محمود يغبطه عليه الاولون والاخرون، دخل ساحة الحرب، ضاحكا مستبشرا، وقاتل مع نخبة من الانصار، وسقط في الحملة الاولى التي حصلت بعد ان رشق اصحاب الحسين بوابل من سهام العدو في فترة الظهيرة فنهضوا جرحى اذ ناداهم سيدهم الحسين للنهوض الى الشهادة، وقاموا وحملوا حملة واحدة واقتتلوا قتالا شديدا، حتى دهش العدو بقوتهم، وخلف ذلك خمسين شهيدا، وكان من بينهم الشهيد الجليل عبد الله بن بشر الخثعمي، وقد ورد عن الأمام المهدي (عليه السلام) في زيارته: السلام على عبد الله بن بشر الخثعمي ورحمة الله وبركاته.
نالها عبد الله وكان صاحب الحظ الاوفر في معركة الطف، فسلام الله على الشهداء الصالحين، ورحمة الله وبركاته.
اضافةتعليق
التعليقات