قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}.
من الحقائق التي لا تتغير هي إن من كانت دوافعه إلهية سوف يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة، وسيدفع عنه تعالى كل ما قد يضعفه أو يزلزله، وهكذا كان نبي الله (عليه السلام)، فالآية ابتدأت بـ {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} إشارة للاستمرارية في التركيز على أداء مهمته الإلهية ثم ذكرت الصعوبات والمعوقات التي كان يواجهها.
فالملفت أن تلك الصعوبات هي ليست نابعة من المهمة التي كان عليه إنجازها، حتى أن القصة القرآنية لم تشر إلى ذلك -في إنها صعبة جداً بالمقاييس الطبيعية- إلا أن القصة ذكرت صعوبات أخرى متمثلة بالبيئة الرافضة وطبيعة التصادمات والأدوات والأساليب التي استخدمتها لإيقاف النبي عما كان يعمل.
وفي هذه الآية ذكرت أحدها وهي السخرية فهي كانت من أبرز أدوات وأسلحة قومه الكافرين برسالته ورساليته، وهو سلاح كثير ما تستخدمه الأقوام التي تتبع الباطل، فهي تعتمد على الحروب النفسية بالدرجة الأولى، وكأنها بذلك تكشف عن نقطة ضعفها لا نقطة ضعف المقابل، لذا النبي واجههم بنفس السلاح.
إلا إنه بَين مفهوم سخريته منهم التي هي ليست سخرية الاحتقار والإهانة اللفظية التي تصدر ممن لم يتربوا في المدرسة الإلهية بل بمعنى تصوير كيف سيحل عليهم العذاب الكاشف عن سوء الخاتمة.
كما نجد إن الآية عبرت بـ [نسخر]، بينما في عملية الصناعة قالت [يصنع] ولعل في ذلك إشارة إلى أن النبي كان هو صانع هذا الإنجاز في إنقاذ النفوس المؤمنة، وكأن بهذا التفرد شكر وتعظيم لهذا النبي ولما قام به ولما تَحمله للقيام بهذا الأمر، أما في عملية السخرية أتت بصيغة الجمع فهي -كما يبدو- إما أن النبي كان بذلك يشير إلى قوة موقفه كقوة وموقف الفرد الذي يقاس بأمة فهو في هذا الموقف كان أمة، ولعله إشارة وبشارة لمن سوف يؤمن الآن ويركب معه السفينة غداً هو يعيش هذا الشعور تجاه من سخر منه في الأمس، فكان بالجمع اشارة له ولمن آمن معه.
بل إن السخرية أتت بصيغة الحاضر لا المستقبل إذ أن الآية عبرت بأنه ليس [سيسخر] منهم لما يَحِلُ عليهم العذاب بل عبرت الآية [نسخر]، أي أننا الآن على يقين وبصيرة نرى بها ما سيحل بكم من العذاب، نحن الآن نرى كيف أن الخاسر الحقيقي -بالمقاييس الإلهية- انتم وكيف إن أعمالكم وجهودكم الدنيوية لن تنجيكم من العذاب بل ستكون وبال عليكم وستكون سبباً لأن تكونون مقيمين بالعذاب حيث لا توجد عندكم فرصة للنزوح أو المغادرة بل ستكون اقامة جبرية دائمة.
وهنا نرى في هذا التقريع والكلام مع حدته وشدته إلا أن باطنه شفقة ورحمة وتنبيه، فهو يريهم ما سيؤول إليه مصيرهم إن بقوا على ما هم عليه، وكذلك فيه تثبيت وتقوية لأهل الايمان ممن تبعه فالذي يؤمن بخاتمته، ويعرف خاتمة غيره ما هي لن ينهزم ولن يتراجع باستهزاء هذا أو أذى أو استصغار ذلك.
ولهذا هو فصل لهم قائلاً أولاً سيأتي العذاب وترونه وستخزون وترون بأعينكم من الذليل ومن هو العزيز، من هو الحق ومن هو الباطل، ثم يحل عليكم هذا العذاب بشكل دائم مقيم أي لن يبرحكم ولن يترككم فهو سينهي وجودكم في عالم الدنيا ثم يرافقكم بعدئذ في عالم الآخرة.
بالنتيجة الاستناد إلى القوة الإلهية في بناء القوة النفسية التي عمادها الإيمان بالمعتقد والبصيرة فيما هو أتى ومرتقب سيجعل الرسالي يقظ ومحصن من أي حرب نفسية يوجّهها له المعادي أو المخالف، وهذا ما يثمر تنفيذ وتحقيق المشروع الإلهي الذي به قد كُلف.
اضافةتعليق
التعليقات