زَهَرَ وجهه وتلألأ كما يزهر النجم والسراج.. زَهَرَ الشجر والقمر وكل الكون وأزهرت حياته بعد جدب وقحط بنور محمد وآل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين)، وبانتمائه وارتباطه بهذا النور، أصبح منارة زاهرة، وأصبح لإسمه معنىً وصار بحق يُنادى ب: زاهر..
زاهر؛ بطل حكايتنا، حكاية الصداقة والحب والايمان والابتلاء والصبر حتى كللت بالشهادة بين يدي سيد الشهداء في أطهر بقعة، والفوز بمنزلة أعلى من الثريا وأسنا من نورها الوضّاء..
لعلّ الكثير منّا لم يقرأ عن حياته، بل لا يعرف إسمه حتّى، جميعنا نسلّم بقلوب ملأى بالشجون وبدموع منهمرة ونتلوا آيات العشق في كل زمان ومكان:
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أبناء الحسين، وعلى أصحاب الحسين..
فمن هم أصحاب الحسين؟! ومن هو زاهر مولى عمرو؟!
ياليتنا نتعرّف على حكاياتهم وأحوالهم وصفاتهم ونرويها وننقلها لأبنائنا ومحبينا..
ولمن يتساءل بصدق أو سذاجة، ما الفائدة من ترديد قصص الماضين؟!
نقول، ما أكثر العِبر التي نستقيها من مسيرة حياتهم، ومنها حياة بطلنا الشهيد الكربلائي، شد ما ستتألم وتبكي وتتأثر بالأهوال التي مرّ بها، تلك الاهوال التي وصلت اخبارها الينا، وماخفي منها أعظم بلا شك، شد ما ستتغيّر إن أردت، شد ما ستعيد الاعتبار قبل تمتمة دائماً ماكنت ترددها، قد تظنّها صادقة وأنت تقول: ياليتنا كنّا معكم، فنفوز والله فوزاً عظيما!.
***
بداية النور
وصل الاسلام بأناشيده مبكراً الى قبيلة زاهر (بني أسلم)، فرسم الله قدراً جديداً لهم، وأخرجهم من ظلمات الجاهلية الى نور الاسلام، فكانت من القبائل التي أعلنت اسلامها مبكراً بين يدي رسول الله
(ص)، وحسن اسلامها، ويحق لهذه القبيلة أن تفتخر بالكلمة التي سطّرها التاريخ بين صفحاته عندما قال رسول الرحمة عن قبيلتهم وجارتها: (غفار) غفر الله لها، و(أسلم) سالمها الله..
وكان زاهر من أوائل من أعلن اسلامه، وأدرك حين رؤية النبي محمد (ص) المجرى الذي ستتجه اليه حياته، فانضمّ مع بني قبيلته الى رسول الله (ص)، وانصبّ النور عليه كالميزاب، فباقترابه من النور بدأ يقترب من الشروق يوماً بعد يوم..
فشارك في معارك الرسول الكبرى ولاسيما حنين، المعركة التي قلّ فيها من ثبت. وأصبح علماً يشار اليه بالبنان فكان "بطلاً مجرباً وشجاعاً مشهوراً، ومحباً لأهل البيت".
وكان ممن بايع تحت الشجرة وشهد الحديبية وخيبر وفتح مكة ووقف مع رسول الله في حروبه وغزواته، وهو ايضا من جملة الرواة الثقاة الذين نقلوا الأحاديث عن رسول الله وأهل بيته ومن الاحاديث التي نقلها: "الرؤيا الصالحة الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوّة".
وكذلك أحفاده كانوا رواة ثقاة في كتب الحديث ونقلوا علوم أهل البيت وكانوا من خيرة صحابة الائمة.
وإن يذكر إسم الشهيد احيانا في قبيلة كندة فهذا لانه من موالي كنده ولاينتسب اليها، وباعتبار مصاحبته لعمرو الذي ينتمي لهذه القبيلة، وقد سكن زاهر مدينة الكوفة.
الخلّ الوفي
أجمل ما في قصتنا هو فصل الصداقة فيها، ورفقته الجميلة مع عمرو بن الحمق الخزاعي، ذلك الصديق الذي يتضح أن له بالغ الاثر في شخصيته، ومن بعد هذه الرفقة سنذكر عمرو مع كل حدث لزاهر، فقد غدا إسمين لروح واحدة، حتى يفرقهم القدر بطريقة قاسية..
لقد تلاقت دروبهما في حب الله، كيف لا وهما يسيران بمحاذاة محمد وأهل بيته الاطهار!.
حتى صار اسمه ملاصقاً له، فسمي: زاهر مولى عمرو.. والمولى هنا بمعنى التابع والصاحب..
تفتّح قلب زاهر لكل مايجيء من صديقه الصدوق، واتبعه اتباع الفصيل اثر أمه، ولازمه كظله، مشيا على درب الاسلام والولاية التي خذلها الكثير، وتحت سقف الولاء بايعوا علياً وابنائه من بعده حسب وصية الرسول (ص) وكانا معا في كل النشاطات السياسية ضد السلطة الغاشمة..
صدق من قال: قل لي من صديقك أقل لكَ من أنت!. فلقد كان عمرو من أولياء الله المخلصين، وكان إسلامه بمعجزة من رسول الله، فلقد أرسل (ص) بسرية، فقالوا لرسول الله: إنك تبعثنا وليس لنا زاد ولا لنا حكام ولاعلم لنا بالطريق، فقال: إنكم ستمرون برجل صبيح الوجه يطعمكم من الطعام ويسقيكم من الشراب ويدلكم على الطريق، وهو من اهل الجنة..
وبالفعل حدث ما قاله رسول الله بالحرف الواحد عن عمرو، كيف لا وهو الذي "لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى"، وبذلك أسلم عمرو ورجع الى قومه، وآمن على يديه الكثير، ثم هاجر الى رسول الله (ص).
كيف يموت الابطال!
الابطال لا يسكتون عن الحق ولايهابون الموت، الظلم قوي ولكن الحق اقوى، ولاسيما إن كان سلاحه الايمان، وكذلك بطلانا اللذان صدحت حنجرتهما بقول: لا.. لا لمن أوغل فساداً، لا لمن اغتصب الخلافة، لا لمن خان الأمانة، وكان عليهما أن يدفعا ثمن هذين الحرفين غالياً، فقد وقفا بوجه الانحرافات التي دبّت في جسد الأمة بعد رسول الله، وقارعا الظلم، فواجها الفساد الكبير الذي عمّ البلاد، والذي وصل إلى درجة أصبح معها السكون يضر بالاسلام والمسلمين، فكان زاهر يآزر صديقه عمرو والذي كان من القادة في هذه الثورة.
وطاردهما زياد بن أبيه بسبب مخالفتهما لسلطة معاوية، وخرجا من الكوفة متخفيَين هربا من ظلمه وجبروته..
وهكذا بقيا يتنقلان من مكان الى آخر ومن ورائهم الجلاوزة حتى وصلوا الى مدينة الموصل وحين بلغ بهما التعب مأخذا اختبئا في غار، وانفلت فرس عمرو وذهب، فرآه القوم فقالوا: هذا فرسه وهو قريب، وفي الوقت ذاته اتت حيّة في الوادي ونهشت عمرو، فأصبح منتفخا وبدأ الألم يفتك، فقال وهو يجود بنفسه: يازاهر، تنّح عني، فإن حبيبي رسول الله أخبرني أنه سيشترك في دمي فسقة من الإنس والجن، ولابد لي أن أُقتل..
تسمّر زاهر في مكانه، وتآكله شعور بالخوف من فقد صديقه، فبينما هما كذلك اذا رأيا نواصي الخيل في طلب عمرو فقال عمرو بعجالة: يازاهر، تغيّب فإذا قتلت فإنهم سوف يأخذون رأسي، فإذا انصرفوا فاخرج الى جسدي فواره، فقال له زاهر بعزم والدموع تترقرق في عينيه: لا.. بل أنثر نبلي ثمّ أرميهم به، فإذا فنيت نبالي قُتلت معك، عشنا معاً، ونموت معاً، قال عمرو وهو يواري ابتسامة ودودة: لا ياصديقي، بل تفعل ماسألتك، ينفعك الله به!.
نظر زاهر اليه بصمت، وبكى بنشيج حاد واخذ يعدو بعيداً واضعاً يديه على عينيه. وأتى القوم فقتلوا عمرو طعناً واحتزّوا رأسه، فلما انصرفوا خرج زاهر فوارى جسد صديقه ودفنه ودفن قلبه معه وترك رحيله ندوباً عميقة في روحه.. وكأن لسان حاله يقول:
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي يامنصف الموتى من الاحياء
فراق الاحبّة
ومرّت الاعوام ثقيلة، افترش زاهر التراب وجلس وحيداً ضاماً ركبتيه الى بطنه، نظر الى صورة صديقه المعلقة على جدار قلبه، واغرورقت عيناه الشائحتان في نجمٍ بعيد بدموع الذكريات، وخاطبه بألم:
آه يارفيقي، بتُ من بعدك عصفوراً مكسور الجناح، لم أفهم، لمَ لم نمت سوية! لمَ الموت لايقبلني وافداً ولا زائراً، لمَ التحقتَ بركب الشهداء دوني، كنا معاً دوماً في موكب العشاق، كنا معاً دوماً نخرج متأبطا كل منّا ذراع الاخر، أنا الآن أتأبط الحزن والوحدة والغربة، أعلم أن الوحدة لاوجود لها إذا انتسبت الى الحق، والهمّ لاوجود له إن انتميت للايمان، وأعلم ايضاً أنّ سحب الاحزان لم تغادرنا يوماً مذ غادرنا رسول الرحمة وتكالب الأمة على أهل بيته، إلا إنك كنتَ تقبض على يدي وكان لي متكأً على كتف محب وكانت كلماتك بلسماً لجراحي فعلاً إن "فراق الأحبة غربة"..
فراقكَ كسر ظهري وزادني فوق بلائي بلاء، ومايبقيني على قيد الحياة، هو الأمل، الأمل بلقاء من بقي من أهل ذاك البيت الشريف، والايمان بأن لكل شيء سبب، وكلمتك لي: "لا تفعل إلا ما أقول لك، لأن ذلك ينفعك منفعة كبرى!" ولذلك أطعتك..
بقيت صدى تلك الكلمات ترنّ في اذني، انها كلمات الغالي عمرو، من حواريي علي، من الاشخاص الذين يعنون كل كلمة يقولونها!.
لم أعِ معنى تلك الكلمات ولم أدرك مقصودك، ما المصير والمكانة العظيمة التي تنتظرني؟!، لمَ لم يخبرني حبيبي محمد عنها كما أخبرك بموتتك، لمَ ترنو إليّ دوما بابتسامة غريبة عندما أذكر الموت، وتقنعني أنك دوني بمراحل بخلاف ما انا اعتقد، أنتَ من قال عنه سيدي علي: ليتَ في شيعتي مئة مثلك!. لذلك اتخذتك خليلاً فأنت من أولياء الله الخاصين، علني أصل الى درجتك في اليقين وعلم الغيب والعبادة والولاء..
إني لامحال مقتول وهذا ما أشتريه، ولكن أين ومتى، هذا ما ماخبأه القدر عني..
كلماتك تعني أني أموت في مقام أفضل، أعلى، واني اشعر أنه لن أنال تلك المرتبة العظيمة إلا إذا كابدتُ أهوالاً، وإني لها ياصديقي..
عزّ من قال: (ولاتدري نفس ماذا تكسب غداً ولاتدري نفسُ بأي أرض تموت)، والتحف زاهر السماء ونامت العين والروح تسبح في ملكوت الاله..
الهائم في الذكريات
ينوء زاهر تحت ثقل الذكريات.. فكل شيء يذكرّه بصديقه، لقد كان معه في حركاته وسكناته، في أقواله وأفعاله، وكأنه قد فقد توأماً بل جزءاً من روحه، اشتعل رأسه ولحيته شيباً، مرّر يده عليهما برفق، وانفرجت ابتسامة على وجهه الحزين، تقاذفته أمواج الشوق الى صورة عصيّة على النسيان، لصديقه عمرو الذي قارب سنه الثمانون ولم يُرَ في لحيته شعرة بيضاء، وذلك بعد أن دعا له رسول الله (ص) وقال: اللهمّ متعه في شبابه..
عانى زاهر من التشرد والفقر حتى بان الهزال على جسمه، فقد دقت عظامه الجوع، وحفرت السنون أخاديدا في وجهه، وأحس بالضعف يأكل ركبيتيه وعينيه، فالكرى لايطرق جفنيه إلا غراراً، تحسس عينيه ورجليه، وومضت ذكريات الماضي التي لم تتركه بحاله، أمسك على قلبه الواهن وهو يستحضر ذكرى اليوم الاخير مع صديقه، عندما خرجا من الكوفة إلى ان وصلا إلى رجل مقعد كان أمير المؤمنين قد أخبر عمرو أنه سيمر به فيستقسيه ويسقيه، ويسأله عن شأنه، فيخبره ويدعه الى الاسلام، فإنه سوف يسلم ويمسح عمرو بيده على وركيه فإن الله يمسح مابه وينهض قائما فيتبعه، وأخبره (من عنده علم الكتاب) أيضا بأنه سيمر برجل أعمى على ظهر الطريق، فيستقسيه عمرو فيسقيه، ثم يسأله عن شأنه، فيخبره ويدعه الى الاسلام، فإنه سوف يسلم، ويمسح عمرو بيديه على عينيه فإن الله عزوجل يعيد إليه بصره، فيتّبعه.. وكالمعتاد حصل كل ماأخبره علي لعمرو!..
تمتم زاهر مع نفسه: أين أنت ياصديقي لتمسح على قلبي البائس الحزين..
انصرمت (10) سنوات على تلك الحادثة الاليمة، بعد استشهاد رفيقه عمّ حياته فراغا كبيرا، مضى زاهر بين البلدان شريداً، تاركاً أهله وبيته، يحوم في أراضي الغربة، هارباً بجلده من الظَلمة، معاوية وزياد واتباعهما، وقاسى النفي والفاقة، وتحمل الضرر والهول.
حتى ألقت سفينته الدائبة مرساتها عند شاطئ مكة المكرمة، حيث اتاحت له الاقدار ان يزور بيت الله قاصداً الحج رغم الاخطار والصعوبات، وهناك حيث همسات السماء، مرّ على قوم يتحلقون حول عالم ما، شرع نوافذ القلب والذكريات فهو لمّا يزداد تشبثا بأطياف سكنت ذاكرته التعبة، حيث المجالس الكبيرة التي كان يعقدها مع صديقه في مسجد الكوفة لمناصرة أمير المؤمنين والدفاع عنه، وكانا يتلوان احاديث الامام في كل حين، فيفرقهم الظالم زياد في كل مرة..
ثم اتجه الى منى حيث رمي الجمرات، رأى جموع الناس الغاضبة من الشيطان تلقي الاحجار، عصف به الحنين ونصف ابتسامة زُرعت على وجهه رغم الحزن المتجذر في الاعماق، وتذكر صاحبه عندما كان زياد بن ابيه يوماً على المنبر فحصبه عمرو بالحصى وأعانه على ذلك، فأرسل زياد الى حرسه عليهما ليضرباهما ويمسكان بهما..
الفرج بعد الضيق
أحسّ أن غيوم الوحدة بدأت تنقشع، تهلل الوجه فرحا، وانقلب الغم سعادة لاتوصف، هاهو سبط الرسول، عزيز الزهراء، الحسين (عليه السلام) بين جموع الحجيج!. لطالما تمنّى اللقاء به لكن الحياة ضنّت به عليه.
وقف مشدوها وكأن على رأسه الطير، أخد يطوف بنظره بين الكعبة وبين الحسين وكأنهما بيتٌ واحد، وجذوة الايمان تتقّد في القلب..
أطلق سراح شعوره الجميل، وعاد بذاكرته الى تلك الاعوام، والى أسماء تنضح ذهباً، هبّ نسيم بارد وهو يذكر رسول الانسانية الحبيب محمد، وكيف بدأت ازاهير الاسلام ومبادئه الجميلة تنمو في روحه بقدومه، وكيف كادت رياح الغدر أن تقلعها لولا تلك الايادي الرحيمة التي أتت من بعده، وجاء عطرُ تنسم شذاه عند ذكره، إنه المولى علي وابنائه البررة، ذاك الذي سقى حياته إيماناً وصبراً لمّا تنفذ ذخيرته رغم المصائب والالام، ذاك الذي كان حبه عربون صداقة عميقة مع عمرو الذي غيّبه الموت، أحسّ بأياديهم تربت على كتفه، وتداوي جراحاته، استلّ نصال الهمّ من قلبه، وكأنها لم تكن، وكأن تلك الوجوه النورانية لم تمت وكلها عادت للحياة وتجسدت في هذا الامام، بقية االله على أرضه..
هكذا يحدث عنما تلتقي بإمامك، تنسى كل أحزانك وتلقيها بين قدميه فداءاً لوجهه الكريم فكل ضائقة عندهم ستفرج..
ها هي الشمس أمامه وضاحة الجبين.. وكأن الظلام لم يدلّهم إلا ليأتي هذا النور.. وكأن الدواء لايأتي إلا اذا تشبعّتَ بالجروح! نعم الحزن يضني ويتعب ويربّي ويرقّي أيضاً!.
حلم حان حصاده!
شعر زاهر بدبيب سريان الدم في جسده وهو ينظر الى هالة النور التي تحيط بالامام، وكأنه جده رسول الله وأبيه علي وأخوه الحسن، تلك الانوار القدسية قد اعادته الى الحياة، ألقى رأسه المحموم الذي يعلوه الغبار على كتف الامام الشريف، تجاذب مع الامام أطراف الحديث، وشكى له حاله، تكلما عن الأمّة وظلم الخليفة، وأخبره الامام بمشروع الثورة لانقاذ دين جده الذي يحاول المجرمون أن يمزقوا أشلاءه، وشدّ الرحال الى كربلاء، فبعض الشر لايصلحه إلا السيف!..
نظر زاهر الى الامام، لقد اعتقد طويلاً أنه بحاجة الى من يحمل عنه أحزانه، رأى الامام الذي يحمل همّ الأمة مثقلا باضعاف احزانه، تمنّى أن يحط عنه بعضا منها، فهي لاشيء أمام مايقاسيه الامام، ردد مع نفسه: نفسي لنفسك الفداء، وبذلك ناصره زاهر بلا تردد، ولبّى نداء الثورة والجهاد من اجل الاصلاح لدين محمد، وصدح صوته مع اصوات الحجيج: لبيك اللهم لبيك..
لبيك داعي الله.. الحلم الذي زرعه قد حان حصاده، وآن وقت استنشاق فجر السعادة..
لا يوم كيومك يا أبا عبد الله!
تحت سقف السماء أراد أن يكون نجمة، وأراد الله أن يُجزل العطاء بأن يكون أعلى من الثريا، وأزهر من نورها، فنجم الثريا هو الاقرب الى مسار الشمس، وكان زاهر في مسار كربلاء وعاشوراء والحسين، و"كل أهل البيت سفن النجاة، لكن سفينة الحسين أوسع وفي لجج البحار أسرع"، وليس كل يوم عاشوراء ولا كل أرض كربلاء، فيوم الحسين لانظير لقسوته، والحسين استثنائي في كل شيء وكذلك أصحابه..
مرر زاهر يديه بلطف على رقبته ونظرة غريبة علت وجهه، لقد أخبرهم مولاهم الحسين بأنهم سيقتلون جميعا وستحز رؤوسهم، تذكر للمرة الاخيرة صديقه الذي حُز رأسه ودار بين البلدان، تمتم بألم:
(دروبنا تلتقي حتى بطريقة الموت، ذات المصير ياصديقي! العروج شهيدَين، مضرجين بالدماء، مقطوعي الرأس)، وتذكّر للمرة الاخيرة ايضا كلمات عمرو عن تميزه بموتة أعظم، أقدس..
نعم، من مثله، فالمكان أشرف، في طف كربلاء وبين يدي سيد الشهداء، ستختلط دمائه مع خير خلق الله، سيدفن بجوار سيد شباب أهل الجنة، وسيتشرّف بسلام خاص من قبل الامام المهدي عليه في زيارة الناحية المقدسة وفي الزيارة الرجبية..
استشهد زاهر في الحملة الاولى، مبكراً كإسلامه وبيعته، مضى الى ربه عطشاناً، سعيداً وحزيناً، فرحاً بلقاء أسياده وأحبائه في الجنة، ومغتمّاً يرنو بحزن نحو الحسين وعياله ومأساة مابعد عاشوراء.
وفي عصر ذلك اليوم التاريخي، ازدحمت الغيوم السوداء، ثم بعد ساعات انقشعت الغيوم لتظهر شمس خمرية اللون، لم يرَ الكون مثلها، وليس بوسع قلم أن يخط ماحدث..
فسلامٌ على زاهر، يامن زهر وجهه في كربلاء، وزهر اسمه في سماء الشهادة والايمان والصداقة، وأي شيء أجمل من الوفاء لمن أمسك بيديه ليصل الى هذه المنزلة، فالامام الحجة عندما يذكره يقول: السلام على زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي، ونحن نذكره ونسلّم عليه بهذا الاسم واللقب، فلقد افترقا في الدنيا واسماؤهما بقيت بجانب بعضها.. فأصبح لقبه الأزلي:
شهيد كربلاء: زاهر مولى عمرو..
***
حكاية زاهر مع الحسين، قد تشبه حكايات الكثير منّا من حيث لانعلم، تشبه حكايات من والى علياً، وناصر الحسين والأئمة من بعده، اولئك المشردين الذين يضربون في الأرض، الذين كابدوا ولايزالون من البؤس والفاقة، الظلم والتعذيب، القتل والتنكيل، التفجير والتكفير، أحداث الماضي تلقي أحياناً بضوئها على الحاضر، قد ترضى بالقليل وقد تغزل الاقدار لكَ مالا تتخيل، ولكن عليك قبل ذلك أن تختار الخلّة المؤمنة، أن تلبس جلباب البلاء لتكون ممن يتنفس صبح الجمعة، ويستنشق فجر الفرج، وممن ييمم وجههه شطر مكة ويتشرف برؤية من تعلق بطلعته أحداق العاشقين!.
اضافةتعليق
التعليقات