صوت الترف كان يعلو في ذلك الوادي المهيب وبدأ يكسر ذلك الصمت الغريب الذي كان يخيم كالشبح على خيام الحسين رويداً رويداً، وسط اللهو والوعود والاستعداد للنهوض لقتل حفيد الرسول، احدهم كان يفكر بما سيفعل بدراهمه وذاك يفكر بجمال منصبه وحلاوة الجلوس على كرسي الحكم والشهرة أمام الجموع وأي منصب؟ ملك الري!.
وذلك الاخر يفكر بتلك الوعود وما سيقدم له "يزيد" في نهاية المطاف، بعد التفكير سد حزامه بقوة ليكسب الغنائم، تأمل في أموال الحسين (ع) وتمعن النظر أدق مما مضى وبدأ يخطط مع نفسه لامتلاك ذلك الخاتم الذي بريقه كان يدهش الناظرين ويتلألأ في إصبع الحسين!
كان الضجيج لا يزال يكسر الصمت ومع الصمت، قلب زينب..
ولكن رغم الألم زينب كانت تشعر بشي من الطمأنينة كلما يرتد طرفها الى اليمين، تطمئن بوجود الحسين وتتخلص من تلك الأفكار المؤلمة وعندما ترى ذلك القمر يشع نوراً تجلس بهدوء لتستمتع برؤية ذلك القمر المنير وتنسى العواصف الآتية، تبتسم عندما ترى علي الأكبر والقاسم يقفان كالجبل الراسخ أمام الخيام تأخذ زفيراً وتتأكد من ان الأمور لازالت بخير وان الاطفال باستطاعتهم النوم بارتياح ولكن كلما كان يقترب الموعد كانت تضطرب اكثر من رؤية تلك الجيوش المؤلفة من أشباه الرجال وضعيفي النفوس وتدعو بصدق لمن يقف في صف أخيها الغريب..
بعد لحظات من رفع يديها الى السماء وصل ذلك المناصر المخلص الى كربلاء حيث التقى الحسين في السادس من المحرم، انه كان هناك بروحه قبل ان يصل بجسده، روحه كانت ترفرف في سماء محبة الحسين فالمُخلصين روحهم وكيانهم وكل ما لديهم يموت شوقاً لرؤية امام زمانهم وما أجمل الموقف حين يكون قلب امام الزمان أيضا يبادل نفس الشعور ويشتاق لرؤية محبيه وما أروع الموقف ان يُختار الموالي من قبل امامه رسولاً في ظرف خاص، كذلك الظرف الذي كان فيه الحسين واصحابه، بمجرد وصول ذلك المخلص بعثه الحسين (ع) رسولاً من قبله الى عمر بن سعد من اجل ان يقيم عليه الحجة وليعظه في نفس الوقت عسى ان ينفع الوعظ والإرشاد وماأعظم مقامه ومكانته وإخلاصه عند الحسين...
حيث أن الرسول يكشف عن شخصية المرسل ولهذا تحاول دائما كل الدول في العالم ان تختار سفراءها من ذوي الثقافة العالية والخبرة الطويلة وان يكون خطيباً مفوّها، لعلمها انه قد يتعرض الى مآزق سياسية تحتاج الى حنكة وحكمة وتعقل لذلك أدرك عمرو بن قرظة ما يريده الحسين بشكل كامل منهجا وعقيدة بحيث وصل الى درجة الفهم الكامل بما يريده الحسين ووصل الى درجة عالية من وضوح الرؤية ولم يكن مجرد رسول بل كان مؤمن حقيقي ومناصر مخلص تعرّض الى مماحكات صاخبة وجدال من قبل ابن سعد وجيشه ولكن كان أهلاً للعمل وأدى المهمة بالشكل الصحيح وأثبت تسامي فهمه ووعيه وبصيرته الى الدرجة التي استطاع من خلالها يستكشف أهداف ثورة الحسين، لم يكن اختيار الحسين بسبب فهمه ووعيه وبصيرته فقط بل من اهم الأسباب، كان والدالشهيد "قرظة ابن كعب" فهو الذي فتح الري،ّ اختار ابن ذلك الشجاع الذي سجل مواقف نبيلة على ذاكرة الدهر وبطولات لاتنسى في زمن أبيه أمير المؤمنين علي عليه السلام.
اختاره بدقة ليدق الجرس ويوقظ تلك الضمائر من نومها العميق الذي بدأ يسرق الجنة منهم ولكن كانوا في غيبوبة أبدية لا يسمعون صوتاً ولا ينتبهون إلى الحقِ يتلوى أمامهم من قلة ناصر..
وكأن صورة الدنانير قد غشيت على أبصارهم وصوت الوعود الكاذبة ملأت آذانهم..
والحسين أراد ان يوصل الى ابن سعد رسالة من خلال إرساله للبطل عمرو بن قرظة: مفادها يابن سعد ان هذا الري الذي تركت كل قيمك ومبادئك من أجله وسحقت بقدمك ما يمليه عليك دينك وإسلامك بل وحتى إنسانيتك في الوقوف الى جانب الحق ضد الباطل، هذا الشيء الذي اعمى عينيك إنما فتحه ابو هذا، ولكنه وقف الى جانب الحق والصدق ولم يأبه بالحطام وبالتالي فهو لا يرى الري فقط بل جميع الدنيا لا تساوي عنده شيء في مقابل إيمانه وعقيدته والخضوع لأوامر امام زمانه والحسين بعث الشهيد الكربلائي في يوم التاسع من المحرم مرة اخرى الى عمر بن سعد ليلتقي به، في هذه المرة أراد الحسين أن يواجهه بشكل مباشر عسى أن يؤثر فيه ويصلحه، بعث الحسين إلى عمر بن سعد عمرو بن قرضة الأنصاري أن القني الليلة بين عسكري وعسكرك فخرج عمر بن سعد في نحو عشرين فارسا وأقبل الحسين في مثل ذلك والشهيد قد اطلع على ما دار بينهما في هذا اللقاء المهم الذي أراد من خلاله الحسين أن يحرك آخر ورقة له عسى أن تنفع في إخراج عمر بن سعد من ضلاله وطغيانه ولكن هيهات لمن طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم ان يعوا كلمة واحدة من إصلاح او وعظ وهو الرجل الشيبة الذي ناهز الخمس وستين سنة لا زالت نفسه متعلقة كل التعلق بالمال والمنصب والجاه، عندما التقى الحسين (ع) مع عمر بن سعد قال: ويحك أما تتقي الله الذي إليه معادك تقتلني وأنا ابن من عرفت؟!
يا هذا ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنه أقرب لك من الله فقال عمر بن سعد أخاف ان تهدم داري فقال له الحسين:
انا ابنيها لك، فقال عمر: أخاف أن تؤخذ ضيعتي، فقال أنا أخلف عليك خيرا منها من مالي في الحجاز، فقال لي عيال اخاف عليهم: فقال أنا أضمن سلامتهم، قال ثم ما سكت فلم يجبه عن ذلك فانصرف عنه الحسين وهو يقول مالك ذبحك الله على فراشك سريعا عاجلا ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إني لأرجوأن تاكل من برّ العراق إلا يسيرا، فقال عمر في الشعير عوض عن البرّ ثم رجع عمر بن سعد ليلا الى معسكره ولقد كان مع الوفد الذي جاء به الحسين في هذا اللقاء الشهيد الكربلائي عمرو بن قرضة وبالتالي فهو قد اطلع على ما دار بين الحسين وعمر بن سعد وعرف الأسباب التي دعت عمر بن سعد للتخلي عن نصرة الحسين الا وهي الدار والنفس والولد والجاه وما أشبه ذلك مِن مغريات هذه الدنيا الفانية المتقلبة بأهلها ولهذا فإنه حينما نزل إلى ساحة المعركة كان رجزه الذي اختاره يتناسب هذا الحضور مع انه لم يبلغ عمره ما بلغ عمر بن سعد من السنين ولكن في هذا الموقف يمثل قمة النضوج والوعي والخبرة بينما نجد ان من ناهز السبعين كأنه صبي صغير متعلق بوسائل لهوه ولعبه ولا يستطيع ان يغادرها حيث كان يقول:
قد علمت كتيبة الأنصار
اني سأحمي حوزة الذمار
ضرب غلام غير نكس شاري
دون حسين مهجتي وداري
انه بين لعمر بن سعد أي دار هذه التي تريدها دون الحسين؟
وأي مهجة تبغيها ومهجة الحسين تريد ان تقطعها السيوف؟
واي اولاد تخاف عليهم وعرض رسول الله مهدد من قبل الأجلاف من بني أمية أي مقياس هذا الذي تعتمده وأخذ منك عقلك وتفكيرك؟
إن الحسين هو الحق والإسلام والإيمان والقرآن وهو الذي يجب أن تضحي بكل الامور من أجله مهما غلت وعلت في نفاستها لأن ذلك يمثل تكليفا شرعيا وهذه أيضا رسالة يقدمها الشهيد لكل المسلمين في العالم وفِي كل زمان أن الدين والإسلام والقرآن قد يمر بفترات عصيبة يكون فيها التحدي في أعلى مستوياتها ولا يبقى أمامنا غال ولا نفيس الا ويوضع تحت الأقدام من اجل بقاء الاسلام وامام زماننا.
فإما ان نختار البقاء في جبهة الحق وأما ان نختار الفناء في جبهة الباطل، لم يهنأ ابن سعد بذلك العيش الرغيد الذي كان ينتظره انها لم تكن سوى ايّام معدودات في حساب الزمن وانتهت به الى شر نهاية ثم لحق بمزابل التاريخ، اما عمرو بن قرظة فقد بقي موقفه خالداً على مر العصور وكر الدهور عندما نزل بكل اشتياق الى ساحة المعركة وقلبه متعلق بحب الحسين كان يقاتل تارة وينظر بهيام لا مثيل له الى مولاه وامام زمانه كي لا يصيبه أي مكروه كان كالطائر المحبوس في قفص جميل يهوى التحرر من ذلك ويرمق أغصان الأشجار بنظرة الإشتياق إلى العودة لها والوقوف عليها بلهفة.
لذلك كان يقاتل ثم يرجع ليقف امام الحسين يدرأ عنه السهام وهنا في هذا الموقف العظيم حيث كان في منتهى العبودية وهو يؤدي طقوس الحب والولاء واقفا أمام الحسين، والسهام عليه تترى إذا به يثخن بالجراح فيسقط الى الارض فجعل يتلقى السهام بجبهته وصدره فلم يصل إلى الحسين سوء حتى أثخن بالجراح فالتفت الى الحسين، وقال اوفيت يابن رسول الله، قال نعم وأنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول الله السلام وأعلمه إني في الأثر، فرغم الجراح والآلام كان يتمنى ان يكون له ألف روح ليقتل في سبيل الله وبين يدي الحسين (ع).
بعد ان أوشكت روحه على الخروج من جسده نظر الى مولاه ليحيى حياة طيبة وملأت قلبه سعادة أبدية حينما أجابه الحسين بالإيجاب وبشره ولم تغمض جفنيه إلا على صورة الحسين، حلق في سماء العظمة والعشق الحسيني وخر قتيلا وعندها قام الحسين من عنده وهو يقرأ قول الله "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلو تبديلا".
قام الحسين من عنده وإذا به يسمع صوتاعاليا من جهة الأعداء وقائلا يقول يا حسين يا كذاب أغررت أخي فقتلته فقال له الحسين إني لم اغر أخاك ولكن هداه الله وأضلك، انه لموقف عظيم ان يخرج من صلب واحد ومن رحم واحدة ومن بيت واحد رجلان احدهما كان عونا للهداية على الضلال والآخر عون الضلال على الهداية أحدهما يقف أمام الحسين كي لا يصيبه اي مكروه ويقول أوفيت؟ والاخر يقف امام الحسين ويتحدث معه بلهجة ملؤها القسوة ويقول: يا حسين ياكذاب.
الحياة تمضي بسرعة وتسرق كل شيء دون رحمة ويصبح الانسان "الخاسر الوحيد" ان باع حظه من الدنيا بثمن قليل و"الرابح الوحيد" ان عرف قدر نفسه..
معركة الحق والباطل ليست مخصصة لزمن خاص إنها مستمرة في كل مكان وزمان منذ بدء الخليقة الصراع مستمر، والشيطان يسعى لإغراء ادم بكل قواه كي يقضي على جنته...
وها هم أبناءه مع علمهم بحقد عدوهم الأكبر لا يزالون يتأرجحون بين الجنة والنار وينسون إنه أقسم بإغوائهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين، قد يقضي أحدهم ساعات في مناجاة ربه ولكن في هذه الأثناء يخطط لمؤامرات شيطانية لأن قلبه يهوى الجميع سوى الباري عزوجل.
في هذا المنعطف الخطير يتغربل الرديء من الجيد ويسقط الضعيف ويبقى المؤمن الحقيقي متمسكا بحبل الله الممدود من السماء كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه واله لينجو من المهلكات ولا يسقط في هاوية الحيرة والضلالة.
في تلك الليالي المظلمة التي كان الظلام الحالك يخيم على قلوب الجميع أقبل ذلك النور المبين كالشمس المضيئة ليرسم السعادة على تلك القلوب قد اختاره الله سفينة نجاة ومصباح هدى لينقذ العالم من الغرق وينجيهم من الهلاك ولكن هذه المرة كانت فاكهة الخلد التي قُدمت لأبناء ادم لأجل إغوائهم هي دم الحسين ورغب فيه القريب والبعيد..
ولكن هذه المرة لم يكن الثمن "البقاء في الجنة" بل كان وعود واهية لم يصل أي واحد منهم اليها بل خسر جميعهم دنياهم وآخرتهم، بئس الخسارة انه السقوط الذي مابعده سقوط خاب وخسر من اعتدى على ذلك الدم الشريف وفاز من حافظ على بقاءه، كعمروبن قرظة الذي وصل الى اعلى درجات سلم الكمال بارادته وحسن اختياره وبالمقابل وقع علي بن قرظة ضحية سوء اختياره وشارك في قتل أخيه ليصل الى أسفل سافلين لذلك يقول الله: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".
جميل ما خط يراع الشاعر عندما قال:
يا ظالماً جارَ في من لا نصيرَ له.. إِلا المهين لاتغترَّ بالمهلِ
غداً تموتُ ويقضي اللّه بينكما.. بحكمةِ الحق لا بالزيغِ والحيلِ.
نبتت جذور ذلك الموالي في أرض الحسين وامتدت إلى عنان السماء، دفن في تلك البقعة الطاهرة مع سيده ومولاه ليعبق الهوى بأريج بركاتهم وأصبحت مراقدهم لوحة ربانية رائعة الجمال تحاكي أسمى حروف الوفاء في قاموس أهل الحب والاخلاص.
اضافةتعليق
التعليقات