مُنذ أمدٍ ليس بقريب ركنتُ قلمي رغم أن علاقتي به جداً طيبة، منحتُ حرفي إجازة لبعض الوقت لا أدري لماذا؟ يُحتمل لأنه ما عاد في حقيبة حروفي ما يُكتب! أو أن إعتناقي مذهب الصمت حتَّم علي ذلك!..
مرت أيام على تلك الحالة، كنتُ أسير في أزقة الكوفة المُكتضة بالعدالة، تكسوها أزهار الرفق بتلك الخُضرة الودية، لا فرق بين مُسلم وآخر سوى؛ التقوى؛ كل شيء يسير على مايُرام.
انقدحت في فكري شرارة تساؤل: من هو الحاكم الآن؟!
كنتُ أُجّدُ في السير لكن لا أدري الوِجهة الى أين؟
رغم إن أسواق الكُوفة كانت مُكتظة بزوارها الا أن الهدوء كان يحكمُ بأزمته على كُل ركن فيها..
وأخيراً أرى فيها شيئاً يشبهُ الذي يتواجد في أسواقنا، يتسول إنه يتسول ما أكثرهم في زماننا هذا، لكن لماذا كُل هذة الضجة حوله؟ إنه لأمرٍ أكثر من الطبيعي..
الكل يتهامسون! ازداد الموقف ريبة، الحيرة بدأت تتسللّ الى الكل كأنها الجراد المُنتشر!
أخذتُ ركناً لأنظر ما سيجري؟.
إنفرج الناس سماطين، ظهر رجلُ من بينهم يتطاير الناس من حوله كالعصف المأكول،
رغم ذلك الثوب الذي ما عرفتُ كم مرة رَقعّه الا إنه كان يمشي ببهاء كبهاء محمد (ص) وآله
يالله من هذا؟ كأن السماء هالةً تحيطه من كل صوب!
توقفَ هو فتوقف الزمن معه، لحظات ثم شق حجاب الصمت بذلك السؤال الذي عجزت قوانينهم عن أجابته، ما هذا؟
ولكن لحظة؟ لماذا لم يسأل عن الرجل؟ لماذا لم يُقل (من هذا؟) لماذا قال ما هذا؟
كنتُ أتحرى شوقاً عن من يجيبه؟ ليسد رمق فضولي أيضاً،
حتى قام بينهم أحدهم، فأجابه: ولكنه يهودي ياسيدي؟
أتراني سألتكم عنه؟ أنني سألتكم عن هذة الظاهرة ماذا تفعل في أيام حكومتي؟ خذوه وامنحوه حقه من بيت المال!
ياللعجب الأمر يزداد غرابة، أحقاً هذة الكوفة التي كانت قبل زمن تضجُ بالتخلف والظُلم!
كنتُ لا زلتُ أسير بتلك الأزقة، كل جدارُ فيها كانت تُزينه قصةٍ ما لرحمةٍ، لعدالة، لحب ليس له من شبيه، أيقظ تأملي فيها ضحكاتٍ لأطفالٍ تعالت من هُنا وهُناك، لم أجد قدماي سوى أنها تأخذني الى حيثُ مصدر تلك الضحكات.
المنظر كان أجمل من أن تحتويه ريشة فنان أو حرفٍ مُثقل بالتقصير، كان يتوسطهم وهم حوله كخلية نحل، هذا يتقلبُ بين كفيه وذاك يأنس بمداعبته والآخر كان فرحاً جداً بأرتقاء ظهره، فقد كان يُداعب النجوم بيديه الصغيرتين وهو على تلك القمة الشماء، أما هو فكانت دموعه تنحدرُ على خديه كالسيل الجارف، منظرٌ كان يحتوي كل ما يُدل على الأضداد! ممَ بكاؤه؟ والأطفال حوله تغمرهم سعادة لا مثيل لها، ( ما إن تأوهتُ من شيء رزئتُ به كما تأوهتُ للأيتام في الصغر)، ولكن ما اكثرهم مولاي هم يفترشون الأرض كأنهم؛ عدم؛ لم تستطع طُهريتهم أن تخترق عقول البشر الصدئة! هم يوقنون جيداً أن علياً رحل!
أأنت (النبأ العظيم) الذي عنك يتساؤلون؟
وحق لهم السؤال أيها الأنسان الأكمل، تركتُ ضحكاتهم التي كانت على أعتابها يتنفسُ الصُبح وصرتُ أحثُ الخُطى مرةً أُخرى لا أدري الى أين؟
فالكوفة تحمل الشيء الكثير، أستوقفتني دار لم استطع أن أتجاوزها ، تجمدتَ قدماي أمامها لا أدري لماذا؟ كان تحملُ من القداسة ما أعيت قدماي عن السير، وقفتُ أتاملها جيداً، لا أدري لماذا ترآءت لي تلك الدار في المدينة مع تلك الطرقات الرحيمة من اليد المُحمدية التي كانت لا تزال مطبوعة فيها رغم آثار الدفعة والدُخان، وقفتُ سائلة كذاك المسكين الذي جاء اليهم سائل وهو يشكو إحتياجه، كذلك اليتيم الذي أسبل دموعهم، كذلك الأسير الذي لم يعرف منهم سوى أنهم أهل بيت زقوا الرحمة زقا.
وقفتُ على بابهم لأراهم (يؤتون الحياة) على حبه كل محتاج، وقفتُ على بابهم لأرى الأمير يجوع من أجل ان يُطعم الفقير، وقفتُ على بابه أحملُ طبقاً خالي إلا من الدمع (أنني أنا الفقيرة لعطاياكم وأنتم المحسنون اليَّ).
انقطعت تلك الصورة وعادت بي الى أرض الكوفة..
هذة المرة كانت شعثاء، مليئة بغبار الفقد، يجري الكُل فيها من هنا وهناك في ذهول كأنه القيامة حين تذُهل كل مرضعة عما أرضعت.
ماذا هناك؟ ماذا يجري؟ لماذا صارت أزقتها تصرخُ بالموت؟
(تهدمت والله أركان الهدى) رُفعّ عليّ الى الاعلى وعاد الى مكانه تاركاً اليتامى قاب قوسين أو أدنى من الضياع والتيه بعد ما كان لهم ( أقربُ من حبل الوريد )..
عُذراً لكل طفلٍ يأن من فرط اليُتم ونحن نحشو آذاننا بكل ما يحجبُ صوتهم!
عُذراً لتلك الآرامل التي تكتوي بجوى الحرمان كل دقيقة ألف مرةً ونحن ننام مُنعمين لأن صدى حرمانها لا تعيها الآ أذنُ واعية!
عُذراً لأنسانيتنا التي أُستبيحت ونحن نحاول أن نصنع إنسانية بعيداً عن؛ عليَّ؛
عُذراً لكل حيَّ يفتقد عليَّ وهو ما زال على قيد قسوتنا، حقاً أن كل شيءُ فينا مات مذُ رحل عليَّ،
عُذراً فقد رحل عليَّ!
اضافةتعليق
التعليقات