في زمن أصبح مصطلح (الهشاشة النفسية) هو الأكثر شهرة للتعبير عن جيل يعيش بنفوس ضعيفة الارادة، هزيلة العزيمة، متشنجة ضيقة قليلة المرونة في التعامل مع الحياة، بكل تفاصيلها الصغيرة ومفاصلها الكبيرة، يأتي محرم في كل سنة ليُدخلنا في مدرسة صانع النفوس القوية الأبية إنه الإمام الحسين (عليه السلام)، مع إنه الباب المفتوح دائمًا ليدخل فيه الجميع، وفي كل وقت.
باب من أبواب صانعية الإمام لنفوسنا
فواحدة من أبواب الإمام التي يمكن أن ندخلها لنصنع نفسيًا هو هذه الفقرات من زيارة عاشوراء التي نقول فيها: [يا أَبَا عَبْدِ اللهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ وَجَلَّتْ، وَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ بِكَ عَلَيْنا وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِيبَتُكَ فِي السَّمَاوَاتِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ](١)، ففيها تبيان لآثار تعظيمنا لشعيرة مصاب أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في كل الموجودات ونحن منها.
إذ قالت الزيارة [وَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ بِكَ عَلَيْنا]، فهي كما يبدو- جعلت بلفظ[بك] أي من خلاله وبواسطة تعظيم مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) سيحدث تغيير في هذه النفس، سترقى وسينزل عليها آثار نورانية معنوية ونفسية تغيير مسار صاحبها السلوكي، وهذا أثر من الآثار.
وهذا مفهوم قرآني كما في قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: ٢٢)، فالتقوى تُعرَفْ بمعنيين [الوقاية] و[الرقابة]، فلو أردنا أن نرى أثر تعظيم شعيرة التفجع والألم والبكاء على رزية ومصاب الإمام الحسين (عليه السلام)على المستوى الشخصي في تحقيق التقوى نقيسها بهذين المعنيين.
فالوقاية التي نكتسبها من تعظيم مصاب الإمام في نفوسنا وقلوبنا هي أن نقيها من أن تصاب بالهشاشة والضعف والانكسار أمام أي مصاب أو بلاء أو امتحان دنيوي شخصي نمر به في رحلتنا في الحياة الدنيا، لأن هذا القلب مُنشغل بما هو أعظم، ومتفجع لما هو أقسى وأمر وأشد ألما.
والرقابة التي نكتسبها من ذلك هي أن نعرف درجة صدق ادعائنا في استشعار عظيم مصاب إمامنا (عليه السلام)، ومدى تعايشنا وهمنا واهتمامنا بما جرى عليه في أرض الكرب والبلاء، ما هي درجة نظافة مرآة هذا القلب في رؤيتها لما جرى على إمام هذه القلوب؟ فالذي ينعصر قلبه لأي فقد، ويكسل بدنه لأي خذلان، وتضيق نفسه لأي وجع، هذا قلب ليس صادق في تعظيمه لا أقل على المستوى الفعلي (السلوكي)!.
كيف نؤهل لهذه الصانعية؟
ولكي يصل الإنسان الموالي المؤمن إلى مستوى النفوس القوية ذات التقوى الحقيقية بتعظيم مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) يحتاج أن يبني علاقة معرفية وعاطفية بعقيدة سليمة بأبي عبد الله (عليه السلام)، فكلما تعرف على الإمام، وعلى مقامه عند الله تعالى، وما جرى عليه وما فعله في سبيل إحياء دين الله تعالى لأجل البشرية؛ كلما كان استشعاره أكبر، وكان تعايشه مع فكرة أن مصاب إمامه عنده هو الأعظم.
ونفس فقرات هذه الزيارة فيها مفتاح هذا الباب لتربية النفس على هذا المستوى، وذلك من خلال تلقيننا بتكرار تبيان هذا المعنى، بترديد العبارة التي ابتدأ الحديث بها وكذلك فقرات أخرى كقولنا: [بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِي بِكَ،…](٢)، وهذه [وَبِالشَّأْنِ الَّذِي لَكُمْ عِنْدَهُ أَنْ يُعْطِيَنِي بِمُصَابِي بِكُمْ أَفْضَلَ مَا يُعْطِي مُصَاباً بِمُصِيبَتِهِ، مُصِيبَةً مَّا أَعْظَمَهَا وَأَعْظَمَ رَزِيَّتَهَا فِي الْإِسْلامِ وَفِي جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأرْضِ…](٢)، فالاقرار بهذه الحقيقة موجب لأن تقر في أعماق قلوبنا لنرى أثرها فيما بعد في سلوكنا.
نموذج لنفوس صنعها الإمام
إن خير نموذج يمكن أن نستشهد به هنا هم أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) الذين لحقوا بقافلته واستشهدوا معه، إذ كانوا بهذا المستوى النفسي بل أن ارتباطهم المعرفي به كإمام مفترض الطاعة، وارتباطهم القلبي العاطفي العقائدي جعلهم يترقون إلى مستوى ليس ألا يروا ما سيجري عليهم من ابتلاءات القتل بالسيوف والطعن بالرماح والجراح بالسهام هينة -لأن مصابهم بإمامهم أعظم- بل تمنوا لو يقتلوا ثم يعودوا ويفعل بهم مثل ذلك ألف مرة.
كما جرى على لسان زهير بن القين البجلي - رحمة الله عليه - لما قال: "والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك"(٣). لأن ذلك لم يكن كافيًا وشافيًا لما كان يدركه من عِظم المصاب.
وفي شاهد آخر نجد كيف يصفهم رسول الله (صل الله عليه وآله) بقوله: "وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل… "(٤)، بل وكيف يصف الإمام نفوسهم بقوله (عليه السلام):
"أما والله! لقد نهرتهم وبلوتهم وليس فيهم [إلا] الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل بلبن أمه"(٥).
كيف نديم نعمة البقاء في صانعية الإمام؟
فهذه الثمرة أي ثمرة أن يكون تعظيم مصاب إمامنا فرصة لتصنع نفوسنا وتتبلور فتكون قوية في الله تعالى، شاكرة صابرة على حسن بلائه، هي نعمة لا ينالها كل انسان بل خص بها أهل الإسلام - كما ورد في الزيارة- أي ممن وصل إلى مرتبة التسليم التام لإرادة الله فيما يفعل ويدبر.
ولذا من الاشارات الجميلة -التي قيلت- في مقصد من مقاصد ختام فقرات هذه الزيارة التي نقول فيها [اَلْحَمْدُ للهِ عَلَى عَظِيمِ رَزِيَّتِي، اَللَّـهُمَّ ارْزُقْنِي شَفَاعَةَ الْحُسَيْنِ يَوْمَ الْوُرُودِ ، وَثَبِّتْ لِي قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَكَ مَعَ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِ الْحُسَيْنِ اَلَّذِينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ ]، هو إننا نحمد الله تعالى أن جعل رزية الإمام رزيتنا، وأن جعلنا من المواسين المتفجعين ومن المعزين بل وأصحاب عزاء، فادراك هذه النعمة وحمد الله تعالى عليها فيها تثبيت قدم صدق لنا بأن هذا التعظيم صنع نفوسنا لتكون متهيئة لإمام زمانها عند ظهوره (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ببذلها كما فعل أصحاب جده الحسين (عليه السلام).
———————-
اضافةتعليق
التعليقات