تلك الليلة كانت أجمل ليلة رأيتها في حياتي، كل أقربائي كانوا معي، تسارع نبضاتنا الساعات، ويتسابق الشباب فيما بينهم من يصل اسرع، الطريق كان بعيدا يستغرق سبعة ايام سيرا على الاقدام، في تمام الساعة العاشرة صباحا انطلقنا من دارنا، لا نحمل امتعة سفر او حقائب، وان كان سفرا طويلا، لكننا لا نحتاج فيه سوى ارواحنا واقدامنا، في اولى الخطوات اتفق الجميع على ان لا يتركوا بعضهم في قارعة الطريق ويسلكوا الطريق العام المخصص للمشاة، على اختلاف اعمارهم وافق الجميع من دون اي تردد.
انقضت الساعات الاولى سريعة جدا حتى اننا لم نشعر بالتعب، الا ان وقت الصلاة قد حان، جلسنا في القرب من خيمة صغيرة، نتهيأ للصلاة، بين قائما وراكعا وساجدا، واصوات التكبير تدوي من الخيمة، ومع استراحة قصيرة جاء رجل وتقدم نحو باب الخيمة ومعه صحن كبير وعليه اربعة ارغفة من الخبز الحار، وضعه امامنا وجبينه يصب عرقا، ويردد: واخجلتي منكم لم املك غير هذا الزاد عسى ان تقبلوه مني بجودكم وكرمكم، عندها شعرت بدفئ يغمر قلبي بشكل كامل، أحسست أن العالم كله دافئ كهذا الرجل، تألمت ثم أغمضت عيني، وتذوقت الزاد، اقسم انه كان من الجنة فلا طعم يضاهي طعمه، ولم يتركنا هذا الرجل فقد جلب لنا اقداح من الماء، وجهز الشاي الساخن على الفحم الذي اشعله عند باب الخيمة، كنت كلما أسمع صوت الحطب وهو يشتعل، يزداد الشعور بالدفئ والراحة..
أسأل نفسي: ما الذي جعل هذا العجوز الكبير يخدم في هذه الخيمة وهو لا يملك القوة، ترتجف اعضاءه وقد ظهر عليه الفقر؟ أجيب نفسي ان هذا الرجل عرف ان محبوبه كريم ويستحق ان يقدم ما يملكه اليوم لينقذه غدا.
نكمل خطواتنا في عالم السير، عالم لا يشبه الواقع بكل ما فيه من الجمال، تستطيع أن تحلم بكل شيء وتراه امامك، سرنا كثيرا داخل ازقة المدينة المكتظة بالمشاة، تجد نفسك أمام نهر كبير من البشر يسيرون نحو اتجاه واحد .
نسوة واطفال وشيوخ وشباب ترفرف راياتهم على اكتافهم، يعرفون بوصلة الحبيب فلا حاجة الى من يرشدهم، توقفت في منتصف الطريق من التعب، فقدت من كان يسير معي من عائلتي، غربت الشمس وشعرت بلسعة برد تنخر في عظامي، اقتربت من شعلة نار اوقدها صاحب الموكب، اصوات اهازيج المشاة وهم يسيرون يجعلوني اشعر بالغبطة، كنت متأملا أن أجد افراد اسرتي معهم، انتظرت كثيرا، وبدأ الليل ينشر ظلامه، واهل الخيام يتوسلون بالمشاة ان يتوقفوا للمبيت عندهم، حتى ان صاحب الخيمة التي جلست عنده وقف عند الشارع العام يضرب على رأسه وهو يقول: اكرموني بمداس اقدامكم..
عزمت على البقاء عند هذا الرجل، مع الكثير من الزائرين، منهم من اتعبه الطريق ولم يقوَ على السير بعد ومنهم من جعل الليل راحة لجسده، بدأت أغفو شيئا فشيئا حتى غصت في نوم عميق جدا، لم أنم مثله من قبل، صحوت من نومي عندما سمعت صوت قراءة زيارة عاشوراء بصوت حزين يشجو القلب ويقطعه، وبعدها اقيمت صلاة الجماعة داخل الخيمة..
لا اخلد الى النوم مرة اخرى، وقد كانت اشعة الشمس تبزغ من ثقب في الخيمة، فتحت عيني جيدا، وقد انتبهت على قدمي، تذكرت انني كنت ارتدي "جواريب"، وقمت مذهولا، رأيت قطعة الجوارب قد غسلت! استغربت وخجلت من صاحب الخيمة لحسن اخلاقه، وما زاد استغرابي هو ان الرجل قد غسل ملابس الزائرين وجهز لهم الفطور، في هذا الطريق تجد اوفر الخدمات يقدمها الجميع من دون مقابل منك فقط يكتفي بقول "خادم" في غير مكان هذه الكلمة تزعجك وتصغر شأنك إلا في هذه القضية يصبح الخادم سلطان..
لم يبقَ سوى بضعة ايام واصل الى غايتي، على طول الطريق وانا اقرأ اسماء الشهداء وارى صورهم معلقة على الجدران تذكرك بأن دمائهم هي التي مهدت لي الطريق، فكرت ان اهدي مئة خطوة الى شهداء العقيدة، لفت انتباهي منظر لأحد المشاة وهو يحمل صورة لشاب ويرتل مع نفسه: لا تتعب يا اخي سنصل الى الحبيب، اذهلني المنظر كيف يتحدث مع صورة، اقتربت منه وانا على حياء منه: اخي الزائر ما قصتك، اراك تحدث الصورة وتشاركها المسيرة.
بدمعة قال: كل عام نسير في هذا الطريق انا واخي الاصغر، قبل ايام استشهد في كركوك لم يطاوعني قلبي ان اسير وحدي من دون مرافقة اخي، لذا لا املك غير هذه الصورة وانا اعلم جيدا ان روحه ترافقني طيلة الطريق.
يا اخ هل تمانع ان ارافقك المسير، منذ ايام ولم ارَ عائلتي فقد تاهت عند الشارع العام، اشار بالاسراع في المشي..
تكتظ الشوارع بالمشاة حتى تشعر ان هناك من يقود هذا الجيش، شاركت الرجل في الحديث عندما كان يقرأ في الطريق زيارة الاربعين وينعى على الحسين، لم يشغله الطعام او الكلام، فكانت انفاسه تسبح ولسانه يلهج بذكر الحسين، وكلما تحدثت معه عن شيء يخص الدنيا قاطعني وقال اتركها فانت راحل نحو الجنة.
يلتقط بقايا الطعام من الارض ويلم النفايات، ويعود الى السير، لم اتحمل سألته سؤالا اخر، لماذا تلم بقايا الطعام من الارض فالجميع يسيرون ولا يلتفتون الى هذه الفتات من الخبز والرز، قاطعني وقال: عندما تأتي السيدة زينب يجب ان يكون الطريق نظيفا، وانا وانت مسؤوليتنا المحافظة على الطريق، اعجبني حديثه حملت كيسا على كتفي وشاركته ايضا، قلت في نفسي هذه المرة الاولى التي اتوفق فيها..
لم يبقَ سوى القليل ونصل الى كعبة العشق، في المحطة الاخيرة لاحت لي عائلتي وقد تغيرت ملامحهم واصبحت متعبة مرهقة ولكنها ستزول بمجرد ان تحتضن اجسادهم ذلك الجسد المغبر، كقافلة وتحت راية الاربعين وصل الجميع لمدينة كربلاء وبين من يؤدي الزيارة وبين من يخدم الزائرين انتهت رحلتنا عند باب الحرمين، وترك الرجل اثرا في نفسي وما زلت اذكره في الطيب، فقد علمني اداب السير نحو الحسين فقد كان كما قال الإمام محمد الباقر حيث قال له اصحابه: إذا خرجنا إلى أبيك أفلسنا في حج؟ قال: بلى.
قالوا فيلزمنا ما يلزم الحاج؟ قال (ع): يلزمك حسن الصحبة لمن صحبك ويلزمك قلة الكلام إلا بخير، ويلزمك كثرة ذكر الله ويلزمك نظافة الثياب، ويلزمك الغسل قبل أن تأتي الحير، ويلزمك الخشوع وكثرة الصلاة والصلاة على محمد وآل محمد ويلزمك التحفظ عمّا لا ينبغي لك، ويلزمك أن تغضي بصرك (من المحرمات والمشتبهات) ويلزمك أن تعود على أهل الحاجة من إخوانك إذا رأيت منقطعاَ، والمواساة (أن تناصفه نفقتك) ويلزمك التقيّة التي قوام دينك بها، والورع عمّا نهيت عنه وترك الخصومة وكثرة الأيمان والجدال الذي فيه الأيمان فإذا فعلت ذلك ثم حجك وعمرتك واستوجبت من الذي طلبت ما عنده بنفقتك واغترابك عن أهلك ورغبتك فيما رغبت أن تنصرف بالمغفرة والرحمة والرضوان.
اضافةتعليق
التعليقات