في يوم السبت قررت ان اذهب الى المكتبة مع رفيقي يوسف، للبحث عن حديث للامام علي (عليه السلام) قد كثر حوله الجدال وان البعض قد استدل فيه لصالحهم، ومن عادتي لا اقرأ أي شيء من دون دليل او سند قوي، لذا كان علي ان ابحث اكثر عن مصدر هذا الحديث..
_يوسف هل قرأت موسوعة الغدير؟
_لا، لماذا تسأل عن هذه الموسوعة؟
_كنت ابحث عن حديث الامام علي (عليه السلام) وقال لي صاحب المكتبة تجد هذا الحديث في موسوعة الاميني..
_حسنا سأذهب لمكتبة العتبة العلوية وابحث عن الكتاب، ما رأيك ان ترافقني؟.
_اشعر بالفضول يا علي سأذهب معك وابحث ايضا.
بين طيات الكتب جلسنا، الاجواء كانت مدهشة حقا، تشعرنا بقيمة هذا التراث العلمي العريق، فكل رف تجد فيه المئات من المعلومات التي تقف تنتظرك، لكنني كنت ابحث عن جوهرة الكتب، تركت كل ما يلمع في المكتبة وبحثت عن هذه الموسوعة، في الرف المقابل كانت تتربع في السطر الاول كما يتربع التاج على عرش الملك، هوى قلبي اليها قبل قدمي، واسرعت نحوها، رفيقي كان اسرع مني فأخذ المجوعة ونادى: هذه هي.
افترشنا الارض وحولنا الموسوعة، اقلب الصفحات كما يقلب الليل النهار، وكل صفحة كانت تغازلني بمعلوماتها وما فيها، اما رفيقي يوسف مازال واقفا في الصفحة الاولى، اثارني وضعه، لماذا لم يقلب الصفحات، لم يبحث في الفهرس بقي واقفا هكذا، قطعت عليه الطريق وقلت له: ما بك يا يوسف لماذا توقفت عن القراءة، هل هناك شيء في المقدمة؟.
_ادهشني سؤاله: علي انت تعرف من هو المؤلف؟
_قلت: لا
_كيف تقرأ هذه الموسوعة من دون ان تعرف صاحب الكتاب يا علي؟.
_رفيقي يوسف انت تعرفني جيدا عندما يشغلني حديث ما افقد التركيز، لكن لماذا تسألني عن المؤلف، فقد سمعت ما قاله صاحب المكتبة في هذه الموسوعة.
_نعم يا علي لكن لست من عادتك ان تجهل المقدمة وحياة المؤلف.
_اتركني يوسف انا مشغول في الحديث والوقت شارف على انتهاء وقت الدوام .
_حسنا يا علي تابع في البحث وانا ايضا اتابع في سيرة المؤلف.
تكوّم حول نفسه شادا ركبتيه الى صدره، بين يديه الكتاب، بين الفينة والاخرى يرتفع صوته، ويعيد القراءة، طلب منه علي ان يقرأ بصوت عال، تنهد ثم اعاد القراءة مرة اخرى، ترك علي ما كان يبحث عنه وجلس يستمع..
المؤلف بين السطور
هو الشيخ عبد الحسين بن أحمد الأميني التبريزي النجفي (1320 هـ - 1390 هـ / 1902 م - 1971 م) نشأ الشيخ في مدينة تبريز، فبدأ دراسته العلمية عند والده، درس الشيخ الأميني على يد خيرة العلماء وافضلهم، أنهى دراسة السطوح، وبدأ بدراسة البحث الخارجي، غادر مدينته متجها نحو مدينة مشرفة (النجف الأشرف) واستوطن فيها، لمتابعة دراسته والنيل من مدينة الامام علي بالعلم..
كان عارفا بعظمة هذه البقعة المشرفة ومالها من كرامات، فكان حريصا على نيل هذه الكرامات ليبلغ درجة في العلم والفضيلة، وتلقى العلوم الصافية من علماء الفقه والأصول والكلام منهم آية الله السيد محمد باقر الحسيني الفيروز آبادي، آية الله السيد أبو تراب بن أبي القاسم الخوانساري، آية الله الميرزا علي بن عبد الحسين الايرواني، آية الله الميرزا أبو الحسن بن عبد الحسين المشكيني .
عاد إلى مسقط رأسه تبريز وأقام بها مدة منشغلاً بالوعظ والإرشاد، ثم عاد مرة أخرى إلى النجف الأشرف وواصل حضور دروس كبار علمائها آنذاك كالسيد محمد باقر الحسيني الفيروز آبادي، والسيد أبو تراب الخوانساري، سافر إلى بلدان كثيرة، منها بلاد الشام وإيران والهند والحجاز وتركيا، وجلس في داره معتكفًا بمكتبته الخاصّة، متفرّغًا للكتابة..
ويلقب بالعلامة الأميني وهو مشهورٌ في تأليف موسوعة الغدير الذي ناقش فيه قضية الغدير ودوّن كثيراً مما يرتبط بذلك من الأحاديث والشعر مع تراجم للشعراء الناظمين حول الغدير، ويثبت خلافة علي بن أبي طالب بعد رسول الإسلام محمد (صلى الله عليه واله وسلم)..
بعدما نال من العلم ما نال عاد الشيخ الاميني إلى مسقط رأسه في تبريز وبقي فيها مدة ليست بقصيرة، يعظ الناس ويرشدهم، وينير طريقهم بكلمات لله فيها رضا وللناس فيها منفعة، كانت مجالسه حافلة بالمتعطشين لهذه العلوم، ترك مجالسة الناس والمحادثات الجانبية وتفرغ للمطالعة والتحقيق والتأليف، وخصص لها وقت خاص، وكانت من ثماره (تفسير فاتحة الكتاب)، وهو أول خطوة في التأليف.
كان كثير العبادة فإذا قرب الفجر قام وادى صلاة الليل وقرنها بفريضة الصبح، ثم جلس يتلو القرآن حتى ينهي جزءا كاملا كل يوم، وبعد تناول طعام الصبح يعكف في مكتبته الخاصة، حتى يحضر عنده تلامذته للمناقشة في الفقه والاصول.
كرامات الشيخ الاميني
نقل الأستاذ الفاضل علي جهاد الحساني مدير مكتبة الأمام أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة الحالي قائلاً: قد سمعت عن الشيخ الأميني هذه القصة: فيما كان العلامة الأميني (قدس سره) مشغولاً في تأليف موسوعته (الغدير)، فاحتاج إلى أحد الكتب النادرة فلم يحصل عليه، فبدأ يسأل ويبحث عن الكتاب ولكن دون جدوى، وأخيراً لجأ إلى حرم أمير المؤمنين (ع) يشكو لذلك العظيم ما يعانيه في طلب الكتاب وفي ليلة من الليالي رأى فيما يرى النائم أن الإمام أمير المؤمنين (ع) قد جاءه وقال له: إن الكتاب الذي تريده والذي فيه الرواية التي تحتاج إليها يوجد عند العلامة الآلوسي (وهو من أسرة العلامة صاحب تفسير روح المعاني) وكان كبير علماء بغداد انذاك وموجود في مكتبته الخاصة، وقد ذكر له (ع) الرف والكتاب والصفحة والسطر الذي تبدأ فيه الرواية، ومن الجدير بالذكر أن الألوسي هذا هو الذي أفتى بقتل الأميني .
وفعلاً توجه الشيخ الأميني إلى الأعظمية والتقى بالعلامة الآلوسي وحدثت خلال ذلك مفارقات كثيرة، وتمكن الشيخ الأميني من الحصول على ضالته ورجع ظافراً بقضاء حاجته، بعدها افتى الشيخ الالوسي هذه المرة بعدم قتله، وأصبح من خلّص أصدقائه.
الامام علي (عليه السلام ) والشيخ الاميني عند الكوثر
نقل الشيخ حسين الشاكري عن آية الله العلامة الورع المرحوم السيد محمد تقي الحكيم صاحب كتاب (الاصول العامة للفقه المقارن) في النجف الأشرف بعد وفاة العلامة الأميني رضوان الله عليه قال: حدثني أحد علماء خوزستان الأجلاء قال: رأيت فيما يرى النائم، كأن القيامة قد قامت، والناس في المحشر يموج بعضهم في بعض، وهم في هلع شديد، وفي هرج ومرج، كل واحد منهم مشغول بنفسه، ذاهل عن أهله وأولاده، وينادي: إلهي نفسي نفسي النجاة، وهم في أشد حالات العطش، ورأيت جماعة من الناس يتدافعون على غدير كبير، من الماء الزلال، تطفح ضفتاه، وكل واحد منهم يريد أن يسبق الآخر لينال شربة من الماء، كما رأيت رجلا نوراني الطلعة، مهيب الجانب يشرف على الغدير، يقدم هذا ويسمح لذاك أن ينهل ويشرب، ويذود آخرين ويمنعهم من الورود والنهل .
قال: عند ذلك علمت أن الواقف على الحوض والمشرف على الكوثر هو الإمام علي أمير المؤمنين (ع)، فتقدمت وسلمت على الإمام (ع) فاستأذنت منه لأنهل من الغدير وأشرب، فأذن لي، فتناولت قدحاً مملوءا من الماء فشربته، ونهلت.
وبينما أنا كذلك إذ أقبل العلامة الأميني (قدس سره) فاستقبله الإمام بكل حفاوة وتكريم معانقا إياه، وأخذ كأسا مملوءا بالماء وهم ان يسقيه بيده الشريفة، فامتنع الأميني في بادئ الأمر، تأدبا وهيبة، ولكن الإمام (ع) أصرّ على أن يسقيه بيده الكريمة، فامتثل الأميني للأمر وشرب. قال الشيخ: فلما رأيت ذلك تعجبت، وقلت: يا سيدي يا أمير المؤمنين، أراك رحبت بالشيخ الأميني، وكرمته بما لم تفعله معنا، وقد أفنينا أعمارنا في خدمتكم وتعظيم شعائركم، واتباع أوامركم ونواهيكم، وبث علومكم؟! فالتفت إلي الإمام (ع) وقال: "الغدير غديره" فاستيقظت من نومي وقد عرفت حينذاك ما للعلامة الأميني من منزلة عند الله عز وجل وعند رسوله الكريم وعند أمير المؤمنين (عليهم السلام).
مستنسخاته ومؤلفاته
وخلال انشغاله بالقراءة، وجد نفسه بحاجة إلى اقتناء بعض المخطوطات التراثية، ولم يتمكن من الاستعارة او الشراء، وجد نفسه في استنساخ جملة من الكتب التي كان بحاجة إليها، واستنساخ ما تضمنته سائر مكتبات النجف الأشرف من أنفس المخطوطات، وأثمن المعلومات، التي كانت في مكتبات العلماء الصالحين، ومن بين اهم مستنسخاته ما يأتي الاجازة الكبيرة لعلماء الحويزة، للسيد عبد الله بن نور الدين بن نعمة الجزائري، الامالي، لمحمد بن محمد النعمان ابو عبد الله الشيخ المفيد ايضاح دفائن النواصب، للشيخ ابي الحسن محمد بن أحمد بن علي ابن الحسن بن شاذان الفقيه القمي. جذوة السلام في نظم مسائل الكلام، للشيخ محمد بن طاهر السماوي.
ومن حسناته قدس سره قام بتأسيس مكتبة أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة في النجف الأشرف في عام 1373هـ .
الأميني والرحيل الى الفردوس
تعرض العلامة الأميني لوعكة صحية، لازمته الفراش ابتداء من سنة 1968 م حتى وفاته في صيف سنة (1970 م) تعالج على عدة أطباء في بغداد ودخل المستشفى، وبعدها رحل إلى طهران لإتمام علاجه غير أن الحالة الصحية ساءت كثيرا، على الرغم من كل المحاولات التي بذلها الأطباء في بغداد وطهران لكن لابد من الرحيل، وفي الثامن والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 1390ه –1970م رحل العلامة من عالم الدنيا الى عالم الفردوس في طهران، ونقل جثمانه الطاهر بالطائرة إلى بغداد، ثم إلى النجف الأشرف، حيث مثواه الاخير، شارك في تشييعه كل من سمع الخبر حتى اصبحوا كالسواد في يوم الثامن من شهر جمادى الأولى..
وبعد أن طافت جنازته في الحرم الشريف، صلى عليها المرجع الديني الأعلى السيد أبو القاسم الخوئي، ودفن في القبر الذي أعده الشيخ لنفسه بجوار مكتبته الخالدة، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.
اضافةتعليق
التعليقات