امرأة جليلة محجبة طاهرة ، معمِّرة، مهاجرة، عرفت بجمالها، ذات شرفٍ في أهلها، وذات نسبٍ طيبٍ، ومنبتٍ كريم في قومها، وأوفرهن عقلاً، وهي ابنة أحد كُرَماء العرب وأجودهم ، كان عمرها قريباً من خمسٍ وثلاثين سنة، ولدت في مكة قبل البعثة بنحو سبع عشرة سنة، وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين، فتوفِّيت سنة إحدى وستين من الهجرة، وعاشت مايقارب تسعين سنة، اختارها الله للاقتران بسيد الخلق وأشرف الكائنات ، من هي هذه السيدة ؟
هند بنت أبي أميَّة حذيفة بن المغيرة المخزومي القريشي -أم سلمة- الطاهرة، التي كانت تعدُّ من المقربين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد كان أبوها أحد اجواد قريش وكان يلقب ب (زاد الراكب) فكان اذا خرج للسفر لايدع أحدا من رفقته يحمل زادا،
تزوجها النبي في السنة الرابعة من الهجرة، فكانت أفضل أمهات المؤمنين بعد خديجة (ع).
حضيت بالمنزلة والمقام المحمود لما لمسه في شخصها من صلاح واستقامة وحكمة، حتى عند أهل البيت عليهم السلام لما كانت تحمله لهم من ولاء صادق، دافعت عنهم وعن حقهم المغتصب ، وتبدي النصيحة المخلصة لغاضبي هذا الحق.
أم سلمة هاجرت في سبيل الله هجرتين.
تهاجر هذه المرأة العظيمة بنفسها في سبيل إيمانها وإسلامها، في سبيل الله هجرتين،
فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا.
أم سلمة من أكمل النساء عقلا وخلقا، فهي وزوجها أبو سلمة عبد الله بن عبد الاسد، عاشت معه حياة زوجية مملوءة بالحب والسلام، رزقت منه بأبنائها الأربعة سلمة وعمر وزينب ودرة، فكان بيتها من أول البيوت اسلاما ، وقد تعرضت من المشركين الاذى ، هاجرت مع أبي سلمة إلى أرض الحبشة حيث ملكها العادل كما نصحهم رسول الله ، وولدت له ((سلمة)) ورجعا إلى مكة، بعد أنباء مفرحة بأن قريش قد غيرت موقفها من المسلمين، فما أجمل الرجوع إلى أرض الوطن ، و حين وصولهما يفاجئان بأن الأمر ليس كما قالوا، وأن قريش مازالت تعذّب المسلمين ، وتهجّرهم .
استجار أبي سلمة بخاله أبي طالب (شيخ البطحاء )و لكن أحقاد قريش كانت تطلب من أبي طالب تسليمهم وتركهم يأخذون عذابهم ، لكنه رفض،
ثم هاجرت معه إلى المدينة. فولدت له ابنتين وابنا أيضا، وكانت أول امرأة مهاجرة تدخل المدينة.
مات أبو سلمة في المدينة من أثر جرح في غزوة أحد، بعد أن قاتل قتال المخلصين المتعشقين للموت والشهادة . وكان من دعاء أبي سلمة: (اللهم اخلفني في أهلي بخير )، قالت أم سلمة فلما اصبت بأبي سلمة قلت اللهم عندك احتسب مصيبتي هذه ولم تطب نفسي أن أقول اللهم اخلفني فيها بخير منها، ثمّ قالت من خير من أبي سلمة ، ثم قالت ذلك فلما انقضت عدتها ارسل اليها أبو بكر يخطبها فأبت، ثم أرسل اليها عمر يخطبها فأبت، ثم أرسل اليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبها فقالت مرحباً برسول الله (ص) ثم تم الزواج المبارك.
زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
عاشت أم سلمة مع المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في حياة زوجية سعيدة تحيط بها مشاعر الحب والإخلاص ، والصبر، حتى عرف عنها رجاحة العقل ولها أساليب بديعة في استعطاف زوجها وأدب بارع في مخاطبته وطلب الحوائج منه.
كان لأم سلمة رأي صائب أشارت على النبي صلى الله عليه واله و سلم . في يوم الحديبية
عندما أمر النبي محمد( ص ) المسلمين بعد عقد الصلح مع المشركين بالتقصير ونحر الهدي ، فامتنعوا عن الامتثال لأمره، فأشارت عليه مشورة دلت على رجاح عقلها وصواب رأيها، فكانت مشورتها أن يحلق وينحر هديه ، فلما شاهده المسلمون حلقوا ونحروا هديهم جميعاً . وهذا الرأي كان كرامة أراد الله اظهارها لهذه المرأة الصالحة.
فضل أم سلمة.
ومن فضلها نزلت في بيتها اية التطهير في أهل البيت عليهم السلام عندما جللهم الرسول بكساء خيبري ثم قال [اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا] فأدخلت أم سلمة رأسها في الستر وقالت يارسول الله وانا معكم ؟
فقال انت إلى خير قالها مرتين .. وأيضا من فضلها كانت ترى جبرئيل (ع) في صورة دحية الكلبي.
حبها لأهل البيت عليهم السلام.
سجل التاريخ لهذه السيدة الجليلة مواقف ولائية جديرة بالذكر ، فلم تكن زوجة أب بل أحبت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام لحب رسول الله لها وان الله يرضى لرضاها ، ويغضب لغضبها، اخلصت لها، وشاركتها محنتها ، ودافعت عن حقها المغصوب، فكانت المتصديّة الوحيدة ضد الغاصبين الحاقدين حتى حاربت وحرمت من العطاء في ذلك العام ، واحبت علياً عندما سمعت مدائح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه والآيات التي نزلت في حقه حتى حفظت الأحاديث وروتها.
ولها مواقف كثيرة مع الامام علي عليه السلام منها عندما أراد الخروج إلى البصرة دخل على أم سلمة ، ليودعها فقالت له{ سر في حفظ الله وفي كنفه، فو الله انك لعلي الحق والحق معك، ولو لا اني أكره أن أعصي الله ورسوله فأنه أمرنا أن نقر في بيوتنا لسرت معك ، ولكن والله لا رسلت معك من هو افضل عندي واعز من نفسي ابني عمر } ، كان تبذل كل جهدها في سبيل أهل البيت عليهم السلام ، تقديم النصيحة لأولئك الذين باعوا دينهم بدنياهم وأخذوا يحرفون كلام الرسول في حق علي، حتى حظيت بالمقربة عند أهل البيت والمستودعة لا سرارهم، أمينة فهيمة ، الصندوق الأمين الذين يودعون فيه أمورا لايصلح ايداعها إلا عند من هو في درجة عالية من الإخلاص والثقة ، حتى ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أن الكتب كانت عند علي ( ع ) فلما سار إلى العراق استودع الكتب عند أم سلمة فلما مضى علي كانت عند الحسن فلما مضى الحسن كانت عند الحسين فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين ثم كانت عند أبي.
أم سلمة و واقعة عاشوراء
إخبار النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمَّ سلمة بمقتل الحسين ( عليه السلام).
كما روى عن الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن أبي الجارود ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بيت أم سلمة ، فقال لها : لا يدخل عليَّ أحد ، فجاء الحسين ( عليه السلام ) وهو طفل فما ملكت معه شيئاً حتى دخل على النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، فدخلت أمّ سلمة على أثره ، فإذا الحسين على صدره ، وإذا النبيُّ يبكي ، وإذا في يده شيء يقلِّبه،
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : يا أمَّ سلمة ، إن هذا جبرئيل يخبرني أن هذا مقتول ، وهذه التربة التي يقتل عليها ، فضعيها عندك ، فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله ، سل الله أن يدفع ذلك عنه ، قال : قد فعلت ، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليَّ أنَّ له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين ، وأن له شيعة يشفعون فيشفَّعون ، وأن المهديَّ من ولده فطوبى لمن كان من أولياء الحسين وشيعته ، هم ـ والله ـ الفائزون يوم القيامة.
وفي رواية أخرى ذكرت أن أمَّ سلمة قالت : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المنام وعلى رأسه التراب ، فقلت : ما لك يا رسول الله ؟ فقال : شهدت قتل الحسين آنفاً.
وروي عن ابن عباس أنه قال : بينما أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمِّ سلمة ، وهي تقول : يا بنات عبد المطلب ، أسعدنني وابكين معي ، فقد قُتل سيِّدكنَّ ، فقيل : ومن أين علمت ذلك ؟ قالت : رأيت رسول الله الساعة في المنام شعثاً مذعوراً ، فسألته عن ذلك فقال : قتل ابني الحسين وأهل بيته فدفنتهم ، قالت : فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء ، وقال : إذا صارت دماً فقد قتل ابنك ، فأعطانيها النبيُّ ( صلى الله عليه وآله ) فقال : اجعليها في زجاجة فلتكن عندك ، فإذا صارت دماً فقد قتل الحسين ( عليه السلام ) ، فرأيت القارورة الآن قد صارت دماً عبيطاً يفور.
قال : فأخذت أمّ سلمة من ذلك الدم فلطَّخت به وجهها ، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحةً على الحسين ( عليه السلام ) ، فجاءت الركبان بخبره وأنه قتل في ذلك اليوم.
وروي عن الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قال : أصبحت يوماً أمّ سلمة رضي الله عنها تبكي ، فقيل لها : مِمَ بُكاؤكِ ؟ فقالت : لقد قتل ابني الحسين الليلة ، وذلك أنني ما رأيت رسول الله منذ مضى إلاَّ الليلة ، فرأيته شاحباً كئيباً ، فقالت : ما لي أراك يا رسول الله شاحباً كئيباً ؟ قال : ما زلت الليلة أحفر القبور للحسين وأصحابه عليه وعليهم السلام، هاجت أحزانها وبكت حتى غشي عليها.
جوهرة الختام
اختارها الله إلى جواره بعد أن بلغت من العمر الرابعة والثمانين في السنة التاسعة والخمسين وقيل في سنة إحدى وستين للهجرة ، وقد أوصت في وصيتها أن لايصلي على جثمانها والي المدينة (الوليد بن عتبة بن أبي سفيان )، وتم تنفيذ وصيتها وقام بأداء الصلاة عليها ابن أخيها.
بعد هذه السيرة العطرة ماذا اقول بحق أم سلمة. حياة مشرفة وقدوة صالحة فهي
خير مثال يجب على الأمهات والزوجات الاحتذاء بها و بحسن أخلاقها تربيتها ، فكانت خير زوجة وأم صالحة، تملك العقل الراجح ، والشخصية القوية، وهذا ما نراه نادرا في مجتمعنا اليوم بين الأمهات والزوجات. كالعناية بالزوج، وتحمل الشدائد ومساعدة الزوج في أصعب الأوقات ، والنظر في تربية الأطفال وتعليمهم . جعلنا الله وإياكم من المقتدين بسيرة أهل البيت عليهم السلام والسير على نهجهم بحق هذه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وارضاها واسكنها فسيح جناته وجعلها مع الأولياء الصالحين .
(بحار الأنوار ، المجلسي ).
اضافةتعليق
التعليقات