يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: "واشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون" (الزمر/69). في هذه الآية الشريفة هناك مواطن كثيرة للتوقف والإستضائة، والسؤال الذي يراود الانسان هو ان لماذا وردت اشرقت بصيغة الماضي؟
إن (اشرقت) كما هو واضح فعل ماض وكذلك الأمر في سائر الافعال الواردة في الاية الشريفة، اذا ان هذه الاية الشريفة تتحدث في ظاهرها وفي التنزيل عن القيامة، لكنها تتحدث في باطنها وفي التأويل عن زمن الظهور المبارك، (واشرقت الارض بنور ربها) اي في يوم القيامة كظاهر وفي يوم الظهور المبارك كباطن، وكلاهما من المستقبل.
وهنالك وجهان قد يعلل بهما ذلك، احدهما بلاغي والأخر فلسفي:
*المجرد من الزمان محيط بالأزمنة الثلاثة
اما الوجه الفلسفي لتوجيه استخدام الله سبحانه وتعالى لما يقع في المستقبل بصيغة الماضي كما في هذه الآية الشريفة (اتى امر الله فلا تستعجلوه)، ويشير الى ان الله سبحانه وتعالى حيث انه مجرد عن الماضي والحاضر والمضارع أي انه مجرد من الزمان، فهو المحيط بالأزمنة الثلاثة، فهو المهيمن عليها بأجمعها انما (الزماني) هو الذي تقيده تصاريف الافعال.
فكل منا كممكن مادي حيث انه محدود الآن في هذا الزمن، اي ان وجوده متحدد الآن في اللحظة الحاضرة، فليس موجوداً الآن في الزمن الماضي، لذا الماضي بالنسبة لكل انسان هو ماض، وكذلك ليس كل منا موجوداً في الزمن الآتي ولذا المستقبل بالنسبة لكل فرد هو مستقبل، ولذا فإن الافعال بالقياس الى آحاد الناس ستكون هي الحاكمة في عالم الإثبات ايضاً، فكما ان الماضي والحاضر حددني وأطّرني ثبوتا، فإنه يحدد تعبيري عن افعالي ايضاً إثباتا، فأقول: جاء، يجيء، او هو جاءٍ واقول: جئت، أجيء، أنا جاءٍ.
اما لو فرض وجودي ممتداً، يعني كان وجودي_وكذلك وجود آحادكم_ ممتداً على امتداد الزمن، يعني كنت انا الان في الماضي موجوداً فرضاً ايضا، وفرض محال _(اي المحال بالنسبة للمادي، والا فإن المجرد مجرد) ليس بمحال_ فإن الأمر يختلف.
فلو فرض وجودي الآن في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل جميعاً، بأن كان وجوداً منبسطاً في وقت واحد على الأزمنة ممتداً عليها، كما انه في بعد المكان نجد ان وجوداتنا ممتدة حسب الرقعة التي حزناها من دون تدافع، فكذلك لو كنا كذلك بالنسبة الى الزمان، فإن استخدامات الفعل ايضاً كانت مطواعة بأيدينا تماما.
اما الله سبحانه وتعالى فحيث انه محيط بالأزمنة كلها، فإن المستقبل له كالحاضر وكالماضي، بوزان واحد، فمن الممكن ان يستخدم فعل الماضي للمستقبل، وفعل المستقبل للماضي، اذ كلها حاضرة لديه، وهو مهيمن عليها جميعاً بنحو واحد، إذ كلها بوزان واحد في شأنه.
والحاصل: ان الله لأنه مجرد عن الزمان ثبوتاً فله تعالى ان يعبر اثباتاً بأي زمن شاء. وهذه لفتة قرآنية بديعة، اذ عادة تجد الإنسان لا يستخدم هذه الطريقة لأنه متأطر بالزمان، فكيف يستطيع ان يتخلص من هذه العقدة؟ ولو تخلص فبتعمل وتمعن.
المستقبل لا شك انه معدوم فكيف يكون حاضراً بنفسه قبل وجوده، لدى الله تعالى فهو تناقض لا يدفعه توهم اختلاف الرتبة. ومنها انه يلزم منه تحصيل الحاصل عند وجوده في المستقبل. وتفصيل هذا النقاش وغيره يترك للمباحث الكلامية التخصصية.
*مستقبل محقق الوقوع
الوجه الثاني وجه بلاغي معروف وواضح، وهو ان المستقبل المحقق الوقوع لأنه محقق الوقوع فانه يُنزل منزلة الماضي، ولذلك فائدتان مزدوجتان:
الفائدة الأولى: هي للمتكلم، حيث انه يريد ان يؤكد كلامه بأعلى درجات التأكيد بل بما يفوق قوله انه متيقن من وقوع هذا الحدث.
الفائدة الثانية: وهي للسامع، لكي تطمئن نفسه وتستقر. اذ تارة تعد الشخص بأن تبذل له شيئاً، وهو وعد مستقبلي قد لا تفي به، لكنك لو صغته _ملتفتاً_ بصيغة ماضية، فكأنه قد وقع، والماضي لا ينقلب عن ماوقع عليه فهل يمكن ان ينقلب الماضي عن ما وقع عليه؟ كلا. وكذلك ما نُزل منزلته...
فلو كان المتكلم ملتفتاً لما امكن ان يتوهم الطرف في ذلك المخلف، كما لا يمكن ان يتوهم في الماضي الانقلاب.
اضافةتعليق
التعليقات